عقيلة بني هاشم السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه
بقلم الفقير الذليل لربه تعالى، حسان بن محمدعلي بن عمر الطيار
مقدمة.
الحمد لله الذي قضى بحكمه ما شاء. الحمد لله الذي قدر الأقدار بين عباده كما يشاء. الحمد لله الذي خلق الخلق فاصطفى منهم من يشاء، لحكمة لا يعرفها غيره سبحانه وتعالى شاء بأمره ما شاء. الحمد لله القائل في محكم التنزيل، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الواقعة/10-12. وأشرف الصلاة وأتم التسليم على سيد الأولين والآخرين، وتاج كائنات الله أجمعين، المبعثون رحمة مهداة من رب العالمين للعالمين، الذي أخرج الله تعالى به عباده من الظلمات إلى النور وهداهم إلى صراط الله المستقيم، سيدنا وإمامنا ومولانا ونبينا وحبيبنا محمد بن عبدالله قائد الغر المحجلين وعلى أهل بيته الأطهار وآله الأخيار وقرابته وأصحابه النجباء وعموم الأنبياء والمرسلين أجمعين وبعد:
فلقد شاء الله عز وجل أن يصطفى من عباده ما شاء لهم، لحكمة وعلم هي له سبحانه وتعالى، هؤلاء الذين مهما كتب الكاتبون، وأرخ المؤرخون، وسطر المسطرون، وخلد التاريخ بحقهم ما خلد، فإنهم لن يوفوهم حقهم وقدرهم أبداً، ولن يستطيعوا أن يحصوا شمائلهم وخصائصهم. ذاك أن إصطفاء الله تعالى لهم فاق ويفوق قدرات من أراد أن يكتب عنهم. ولذلك كله ترى الأقلام تعجز، والمداد يجف، والعمر ينقضي دون أن تجد البشرية حصراً شاملاً وتأريخاً كاملاً لهؤلاء العظماء، والذي أراد الله تعالى أن يكون منهم، سيدة من السادات الذين اصطفاهم، الذين قال بهم صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) رواه مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
هي تلك العقيلة الهاشمية، والعالمة غير المعلَّمة، بطلة كربلاء، سيدتنا زينب الكبرى بنت سيدنا أمير المؤمنين أبو السبطين علي الكرار أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، حفيدة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. بنت البضعة الطاهرة الزكية فاطمة الزهراء، شقيق السبطين الجليلين الحسن والحسين وأخيهما سيدنا محسن وأختهما سيدتنا أم كلثوم عليهم رضوان الله تعالى وسلامه أجمعين.
هي من جلجلت في أرض مؤتة وما بعدها ودحرت الظالمين بمواقفها البطولية التي لا يقواها الرجال الأشداء، لاسيما إن كان الموقف مع أحد أعتى الظالمين الذين شهد لهم التاريخ بسوء أعماله. هي الوصية الطاهرة لأمها التي ما انفكت تصوت وصيتها وتؤديها حقها ليلاً ونهاراً في كل مكان وزمان. هي من سكن قلبها وروحها حب السبطين الجليلين عليهم رضوان الله وسلامه، وسكن حبها نفوسهم وأرواحهم الطاهرة. هي من تحملت المصائم ما لا يستطيع تحمله أقوام من الرجال، صابرة محتسبة ذلك عند ربها، مؤمنة بقضائه وقدره. هي من فارقت زوجها وأبنائها وابنتها وشقيقتها ظلماً وعدواناً بأوامر ظالم جائر لا رحم الله ورحه أبد الآبدين.
لقد توقفت كثيراً وأنا أكتب سطوري المتواضعة هذه، وسألت نفسي ملياً، كيف أكتب عن عظيمة بهذه العظمة وأنا لا أملك القدرة على ذلك شيئاً؟ كيف أكتب عن شخصية جليلة كهذه وأنا لا أملك من العلم إلا ما لعمني ربي وما علمي إلا ذرة قطرة من علوم علمها ربي لأهل العلم؟ ولذلك كله، أعترف أمام القارئ والقارئة بأنني مهما كتبت، فلن أوفي سيدتي وجدتي وأمي وقرة عيني ومولاتي عقيلة بني هاشم زينب الكبرى بنت سيدي ومولاي علي الكرار بن أبي طالب. بنت سيدتي وقرة عيني ومولاتي الزهراء البتول عليهم رضوان الله تعالى وسلامه أجمعين، ولا بقدار قطرة من محيطات ما خصها الله تعالى به. مستغفراً الله تعالى عما بدر ويبدر مني من تقصير ومستسمحاً رسوله الهادي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسيدتي الجليلة عقيلة بني هاشم عليها رضوان الله تعالى عن ذلك، واضعاً ذلك كله بين يدي الله جل وعلا ومحتسباً الأجر منه جل جلاله. فإن وفقت في عملي فمن الله تعالى، وإن أخطأت فمن نفسي وأستغفر الله العلي العظيم من ذنبي وأتوب إليه. والله أسأله التوفيق والنجاح.
اسمها ونسبها عليها رضوان الله وسلامه.
هي السيدة المبجلة الجليلة العظيمة صاحبة القدر والمقام، وعلو الهمة ورفعة الشأن، عقيلة بني هاشم وزهرة آل البيت، حفيدة سيد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم، علم النساء ومزلزلة الأعداء، سيدتنا زينب بنت سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أبو السبطين الجليلين علي الكرار بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم عليهم رضوان الله وسلامه وبركاته ورحماته، وأمها سيدتنا المعظمة الجليلة المفخمة، سيدة نساء العالمين، بضعة الحبيب الأعظم سيدنا ومولانا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الطاهرة المطهرة فاطمة الزهراء عليها رضوان الله وسلامه وبركاته ورحماته.
وأما جدها لأمها، فهو سيد الكائنات وملاذ المخلوقات وشفيع الأمم ورحمة الله وهدايته للجن والإنس عرباً وعجم، حبيب الله وصفيه ونجيه وخليله الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. وأما جدتها لأمها فهي أم السلام المقروءة بالسلام من الله السلام جل وعلا الحبابة الجليلة سيدة أمهات المؤمنين وهدية الله لحبيبه من العالمين، السيدة العظيمة خديجة الحبابة بنت خويلد عليها رضوان الله وسلامه.
وأما جدها لأبيها فهو السيد المبجل، سيد العرب والعجم وعظيم البطحاء، أبو طالب بن عبدالمطلب الهاشمي الذي شهد له التاريخ بعظيم مواقفه وجليل مكانته. وأما جدتها لأبيها فهي السيدة الهاشمية العظيمة الوقور حبيبة رسول الهدى صلى الله عليه وآله وسلم، السيدة الهاشمية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمناف، أول هاشمية تزوجت بهاشمي وأنجبت له ولحقت بكوكبة الإسلام ووصت إلى الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقبل وصيتها وصلى عليها ونزل بلحدها وأثنى عليها ثناءً عظيماً.
وأما جدها الأعلى لأبويها فهو أمين الكعبة وصاحب السقاية والرفادة والقيادة، صاحب دار الندوة، سيد سادات قريش والعرب عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف، وبه يطول الذكر ويكثر المديح ويعلو الفخر، ولا ينكر مقامه وفضله إلا جاهل مبغض.
ولدت بأبي هي وأمي وروحي عليها رضوان الله وسلامه في جمادى الأولى من العام السادس من الهجرة بعد مولد أشقائها ساداتنا الحسن والحسين ومحسن عليهم رضوان الله وسلامه أجمعين، فقدم الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بيت ابنته الزهراء البتول عليها رضوان الله وسلامه – على ما ترويه الكتب الثقات في التاريخ – وسألهم عن اسمها فأجابه سيدنا علي عليه رضوان الله وسلامه: (ما كان لنا أن نسميها قبلك يا رسول الله) فقال عليه وآله الصلاة والسلام: (وما كان لي أن أسميها قبل أن يسميها الله) وليس هذا بالمستغرب على أصحاب الخلق القرآنية. فنزل جبريل عليه السلام وأقرأه السلام من الله، وأن الله تعالى يأمره أن يسميها (زينب)، وزينب هي شجرة مباركة زكية في الجنة، فحنكها عليه وآله الصلاة والسلام وسماها زينب، بأمر الله تعالى وتيمناً باسم ابنته الشريفة العظيمة سيدتنا زينب عليها رضوان الله وسلامه. وفي هذا المقام يدعي البعض أن هذه إحدى روايات الشيعة – ونبرأ إلى الله منهم ومن ضلالهم – ولكن الحق أنها من روايات ثقات التاريخ السنية، وليست بالمستغربة – لو تأمل المتأمل – حدوثها وتسميتها عليها رضوان الله وسلامه كما كانت تسمية أخوتها من قبل الحسنين الشريفين عليهم رضوان الله وسلامه.
ألقابها عليها رضوان الله وسلامه.
لقبت عليها رضوان الله وسلامه بعقيلة بني هاشم، وزهرة آل البيت، والعارفة، والعالمة غير المعَلَّمة، والنرجسة، والموثوقة، وأميرة أهل البيت، وصاحبة الديوان، وبطلة كربلاء، وعروس مصر، بل قال بعض أهل التاريخ أنها لقبت بسبع وعشرين لقباً، وما هذا إلا دلالة على عظيم قدرها ومقامها، إلا أن ما غلب عليها هو لقب العقيلة، ويقال لأبنائها أبناء العقيلة.
نشأتها عليها رضوان الله وسلامه.
قلدتها والدتها العظيمة عليهما رضوان الله وسلامه وهي على فراش لقاء الله تعالى مسئولية أبيها وأخواها الحسنين وأختها أم كلثوم عليهم رضوان الله وسلامه، وكانت قد بلغت من العمر آنذاك خمس سنين، فقامت بالوصية على أعظم وجه، وكان أبوها الهمام عليه رضوان الله وسلامه يسميها أم أبيها، لما كان لها من فضائل الأعمال.
نشأت بين الحسنين عليهم رضوان الله وسلامه فكانا في قلبها أعظم الحب أخوة وسنداً، ولما أتمت بلوغها جعلها سيدنا علي عليه رضوان الله وسلامه لابن أخيه جعفر ذو الجناحين، عبدالله الجواد عليهم رضوان الله وسلامه، فتزوجها وأنجب منها وعقب أربع أبناء (علي الزينبي وعباس ومحمد وعون) وابنة واحدة (أم كلثوم) على أصدق الروايات، وكان نسله منها والعقب في ابنه علي الكرار والذي يسمى بعلي الزينبي.
إنتقالها من المدينة المنورة إلى العراق.
ولما كانت خلافة أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه، وانتقال دار الخلافة آنذاك من المدينة المنورة إلى العراق، انتقلت برفقة زوجها عبدالله الجواد بن جعفر وأبنائها عليهم رضوان الله وسلامه أجمعين، وكانت وزوجها إلى جوار أبيها أمام جميع الثورات والقلاقل التي حدثت آنذاك، لا يهدأ لها بال، ولا ينام لها جفن، تعلم غيرها كيف تكون الحياة والتعامل مع مختلف أنماطها، وتلحظ أباها صاحب فنون الإدارات المدنية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية وغيرها من مختلف أنماط الإدارة، وترعى بعلها وبنيها وقريباتها من الهواشم والهاشميات.
فلما كانت موقعة الجمل، ثم كانت موقعة صفين، كانت النرجسة بزوجها وبنيها في رفقة أبيها عليهم رضوان الله وسلامه، وإلى جواره في كل وقت، لا تتخلى عن موقعة، ولا تترك مكانها في نازلة، قوية الشكيمة، عالية العزيمة، تلحظت كيف خرج الخوارج على أبيها، وما كان بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، وكيف كانت بسالة أبيها في النهروان، ثم ما ألم به من غدر على يد عدو الله وعدو رسوله، عبدالرحمن بن ملجم قاتله الله وأهلكه ولعنه أبد الآبدين، فصبرت على كل ذلك واحتسبت، وهي على يقين أنها وإن فقدت أرواحاً تعلو أرواحها، فإنهم قد اجتمعوا بجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي اليوم الذي تكون معهم وإلى جوارهم.
عودتها إلى المدينة المنورة.
عادت برفقة زوجها وبنيها إلى المدينة المنورة بعد انتقال أبيها عليه رضوان الله وسلامه إلى الرفيق الأعلى، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ حياتها، وإكمالاً لما أوصتها به أمها العظيمة عليها رضوان الله وسلامه، في أن تكون إلى جوار أبيها وأخواها الحسنين الشريفين وأختها أم كلثوم، ولتبدأ مرحلة مرافقة أخيها الحسن بن علي عليهم رضوان الله أجمعين.
هناك في المدينة المنورة، رافقت أخاها الحسن بن علي عليهم رضوان الله وسلامه، وكانت إلى جواره يوماً بيوم وساعة بساعة، في معركته التي خاضها مع معاوية بن أبي سفيان، ثم إصلاحه لشأن المسلمين يوم أن تنازل عن الخلافة لمعاوية، على أن تعود له من بعده وألا تكون ملكاً متوارثاً. ورافقته بعد عودته إلى المدينة المنورة، وصبره على ما ألم به وبآل البيت أجمعين آنذاك، انتهت باستشهاد سيدنا الحسن بن علي عليه رضوان الله وسلامه، مسموماً بمؤامرة كيدت به، لعنة الله على قاتله وأعوانه. وهي في كل ذلك لم تنقص أنملة من رعايتها زوجها وأبنائها، ولم تغفل لها عين قط عن عبادتها لربها وعلمها وورعها وتعليم نساء المسلمين أمور دينهم، تعطي كل ذي حق حقه، كنحلة تنقل الشهد لكل من حولها، كما كان أبيها عليها رضوان الله وسلامه عيسوب الدين والدنيا، وكما كانت أمها العظيمة عليها رضوان الله وسلامه البضعة الطاهرة الزكية.
استشهاد أخيها الحسن السبط عليهم رضوان الله وسلامه.
وأما في أمر استشهاد أخيها الحسن عليه رضوان الله وسلامه، فقد روت ثقات التاريخ ذلك ومنها ما قال صاحب الاستيعاب في معرفة الأصحاب: "قال قتادة وأبو بكر بن حفص: "سم الحسن بن علي سمته امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها من ذلك وكان لها ضرائر والله أعلم. وقال الصالحي الشامي في "سبل الهدى والرشاد" (11/64) وابن عبدالبر في "الإستيعاب" (1/115) والعصامي في "سمط النجوم العوالي" (2/44) والصمدي في "الوافي" (4/162) وابن حجر في "التهذيب" (2/260) والواقدي في "الطبقات" (3/274) وابن خلكان في "وفيات الأعيان" (2/66) والمزي في "نهذيب الكمال" (2/252) والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (3/274) وابن الأثير في "أسد الغابة" (1/261)، وغيرهم الكثير من الثقات، والقول لابن الأثير في حديثه على سيدنا الحسن السبط عليه رضوان الله وسلامه: (وقد اختلف في وقت وفاته، فقيل: توفي سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وكان يخضب بالوسمة. وكان سبب موته أن زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس سقته السم، فكانت توضع تحته طست، وترفع أخرى نحو أربعين يوماً، فمات منه، ولما اشتد مرضه قال لأخيه الحسين رضي الله عنهما: يا أخي سقيت السم ثلاث مرات لم أسق مثل هذه، إني لأضع كبدي، قال الحسين: من سقاك يا أخي؟ قال: ما سؤالك عن هذا؟ أتريد أن تقاتلهم؟ أكلهم إلى الله عز وجل) انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله. وقال ابن خلكان: (يقال ان امرأته جعدة بنت الأشعث سمته ومكث شهرين، وأنه ليرفع من تحته كل يوم كذا وكذا طست من دم. وكان يقول: سقيت السم مراراً ما أصابني ما أصابني في هذه المرة. وخلف عليها رجل من قريش فأولدها غلاماً، فكان الصبيان يقولون له: يا ابن مسمة الأزواج) انتهى كلام ابن خلكان رحمه الله. وقال المزي: (أخبرنا يحيى بن حماد، قال: أخبرنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أم موسى: أن جعدة بنت الاشعث بن قيس سقت الحسن السم، فاشتكى منه شكاة، وكان توضع تحته طست وترفع أخرى نحوا من أربعينه يوماً. وقال محمد بن سلام الجمحي، عن ابن جعدبة: كانت جعدة بنت الاشعث بن قيس تحت الحسن بن علي، فدس إليها يزيد أن سمي حسناً إنني زوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها، فقال: إنا والله لم نرضك للحسن فنرضاك لأنفسنا) انتهى كلام المزي رحمه الله. وذكر أبو زيد عمر بن شبة وأبو بكر بن أبي خيثمة قالا: حدثنا موسى ابن إسماعيل قال: حدثنا أبو هلال عن قتادة قال: دخل الحسين على الحسن فقال" "يا أخي إني سقيت السم ثلاث مرات لم أسق مثل هذه المرة، إني لأضع كبدي" فقال الحسين: "من سقاك يا أخي؟ قال: ما سؤالك عن هذا؟ أتريد أن تقاتلهم؟ أكلهم إلى الله". فلما مات ورد البريد بموته على معاوية فقال: "يا عجباً من الحسن، شرب شربة من عسل بماء رومة فقضى نحبه". وقال العصامي في " سمط النجوم العوالي" (2/43): "قال العلامة المسعودي في المروج؛ عن علي بن الحسين قال: "دخل أبي الحسين على عمي الحسن حدثان ما سقى السم، فقام عمي الحسن لقضاء الحاجة ثم رجع فقال: "لقد سقيت السم عدة مرات فما سقيت مثل هذه، ولقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أنكثه بعود في يدي"، فقال له أبي: "يا أخي، من سقاك؟" قال له: "وما تريد من ذلك؟ فإن كان الذي أظن فالله حسيبه، وإن كان غيره فما أحب أن يؤخذ بي بريءٌ، فلم يلبث أن توفي رضي الله تعالى عنه". وذكر بأن امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي قد بعث إليها يزيد: "إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك مائة ألف درهم وتزوجتك"، فكان هذا الذي بعثها على سَمِّه. فلما مات وفىّ لها بالمال وأرسل إليها: "إنا لم نرضك للحسن فكيف نرضاك لأنفسنا؟!". وقال صاحب الوافي بالوفيات: "ثم إنه مات مسموماً؛ (يعني الحسن بن علي) قيل إن زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس، أمرها بذلك يزيد بن معاوية لتكون ولاية العهد له، ووعدها أن يتزوجها، فلما مات الحسن، قال يزيد: "والله لم نرضك للحسن فكيف نرضاك لأنفسنا"، ولم يتزوجها". وفي تهذيب التهذيب "قال أبو معاوية عن مغيرة عن أم موسى (يعني سرية): على أن جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم فاشتكى منه شكاة فكان يوضع تحته طست وترفع أخرى نحواً من أربعين يوماً" وفي وفيات الأعيان: "قال القتبي: يقال أن امرأته جعدة بنت الأشعث سمته ومكث شهرين، وأنه ليرفع من تحته كل يوم كذا وكذا طست من دم. وكان يقول: "سقيت السم مراراً ما أصابني ما أصابني في هذه المرة" وغير ذلك في مئات الثقات من المراجع التاريخية.
وبقيت النرجسة عليها رضوان الله وسلامه، طوال تلك الفترة تنظر حال أخيها الحسن وإلى جوارها أخوها الحسين عليهم رضوان الله وسلامه، وهي لا تقوى أن تصنع شيئاً صابرة على قضاء الله وقدره، حتى لقي الله تعالى فكانت رابعة العظام التي حلت بها بعد فقدها جدها وأمها وأبيها، وهاهي اليوم تودع أخيها، عليه رضوان الله وسلامه.
عادت النرجسة وقد وادعت أخيها وحبيبها ورفيق دربها الحسن بن علي عليه رضوان الله وسلامه، تستجمع قواها من جديد وقد ازدادت الأمانة حملاً والمسئولية حجماً، فواصلت طريقها بثبات منقطع النظير، برأ بأخيها ووالديها، وتنفيذاً للوصية التي قلدتها إياها أمها العظيمة الزهراء عليها رضوان الله وسلامه. فوقفت تنظر ما حل بأخيها الحسين عليه رضوان الله وسلامه إبان موت معاوية بن أبي سفيان وتقليد الملك ابنه يزيد من بعده، دون أن يكون ليزيد الحق في ذلك. كونه يقوم على نقض الصلح الذي سبق وأن أقامه أخوه الحسن في هذا الأمر. فرفض سيدنا الحسين عليه رضوان الله وسلامه البيعة ليزيد، ليس لنقض الصلح فحسب، بل لعلمه بما هو عليه من أخلاق لا تؤهله أن يقود أمة الإسلام، ولا أن يقيم عدلاً بها. فوقفت إلى جوار أخيها الحسين عليه رضوان الله وسلامه في هذا المصاب بثبات ونصرة منقطعة النظير.
ومضات من حياة بطلة كربلاء العقيلة في كربلاء الحزينة.
لما قضى الله تعالى أمره، وكان تحرك سيدنا الحسين عليه رضوان الله وسلامه، لقتال جيش يزيد بن معاوية، ومعركته الخالدة مع جيش الظلم والعدوان بقيادة عدو الله ورسوله، عبيدالله بن زياد لعنة الله عليه. لم تجد العقيلة الطاهرة عليها رضوان الله وسلامه بداً من أن تبقي بعضاً من نسلها إلى جوار زوجها وابن عمها عبدالله بن جعفر عليهما رضوان الله وسلامه. فأخذت زمام أمرها، وتحزمت بالصبر تاركة ورائها زوجاً وابنة هي السيدة أم كلثوم وابنين اثنين هما سيدنا علي الزينبي وسيدنا العباس، أما هي فقد أرسل زوجها عبدالله بن جعفر الاثنين الباقيين من أبنائها برفقتها ليكونوا إلى جوارها وجوار خالهم العظيم سيدنا الحسين عليه رضوان الله وسلامه، عوناً الأكبر ومحمداً ابنا عبدالله بن جعفر عليهما رضوان الله وسلامه، وليكونا ضمن ذلك الجيش الهامشي الحسيني تحت قيادة ابن عمه وأخيه في مشوار الحياة الحسين عليه رضوان الله وسلامه. وخرجت من المدينة المنورة منطلقة ترافقها بعض الهاشميات ومنهن سيداتنا العظيمات، فاطمة بنت الحسين بن علي وسكينة بنت الحسين بن علي وشقيقة العقيلة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله أجمعين إلى أرض كربلاء.
هناك، كانت بسالة العقيلة الطاهرة، وبطولة ما وجد التاريخ أعظم منها ضمن سطوره التي سطرها لنساء الأرض، حين وقفت تنظر، كيف أن جيشاً فاق الثلاثة آلاف يقابل اثنان وسبعون فرداً ومعهم بعض النساء. وكيف وصل الجهل بأهله فجاءوا يقاتلون ابن رسول الله وسبطه وبناته. وكيف أن الظلم قد وصل بهؤلاء موصله، حتى قطعوا الماء عن جيش أخيها. وكيف فعلوا ما فعلوا ببني هاشم ورجالهم. ونذكر في هذه العجالة بعضاً مما جرى في تلك الموقعة المؤلمة، وما هو إلا قليل القليل، نراه أمراً ضرورياً لمعرفة أي مصيبة أحاطت بعقيلة بني هاشم عليها رضوان الله وسلامه، في كربلاء، ثم ما كان منها من صلابة بالرغم مما حدث.
فقد ذكر الزركلي في الأعلام، والطبري في التاريخ وغيرهم، فقال الزركلي في ترجمته لسيدنا علي (وليس هو بسيدنا علي زين العابدين) بن الحسين عليهما رضوان الله وسلامه. وهو علي الأكبر بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي، من سادات الطالبيين وشجعانهم. قتل مع أبيه الحسين السبط الشهيد في وقعة الطف (كربلاء) وكان أول من قتل بها من أهل الحسين، طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدي من بني عبدالقيس، وهو يحوم حول أبيه، يدافع عنه، ويقيه، وانهال أصحاب الحسين على "مرة" فقطعوه بأسيافهم. وضم الحسين علياً، فلما مات بين يديه قال: "قتل الله قوماً قتلوك يا بني، وعلى الدنيا بعدك العفاء" وكان مولده في خلافة عثمان. وكنيته أبو الحسن وليس له عقب.
وقال الطبري في "تاريخه" (4/340) وابن الأثير في "الكامل" (2/183) والأصبهاني في "مقاتل الطالبيين" (1/33) وغيرهم: وكان أول قتيل من بني أبى طالب يومئذ علي الأكبر بن الحسين بن علي وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة الثقفي وذلك أنه أخذ يشد على الناس وهو يقول:
أنا علي بن حسين بن علي
نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
قال ففعل ذلك مراراً فبصر به مرة بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي فقال: "عليَّ آثام العرب إن مر بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه" فمر يشد على الناس بسيفه فاعترضه مرة بن منقذ فطعنه فصرع. واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبى راشد عن حميد بن مسلم الأزدي قال: "سماع أذني يومئذ من الحسين يقول: "قتل الله قوماً قتلوك يا بني، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء" قال: "وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادى: "يا أخياه، ويا ابن أخاه" قال: "فسألت عليها فقيل هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" فجاءت حتى أكبت عليه، فجاءها الحسين فأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط. وأقبل الحسين إلى ابنه وأقبل فتيانه إليه فقال: "احملوا أخاكم" فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.
وكذا قال الطبري في "تاريخه" (4/341) وابن الأثير في "الكامل" (2/176): فاعتورهم الناس من كل جانب (يعني تكالب جيش ابن زياد على رجال الحسين عليه رضوان الله وسلامه) فحمل عبدالله بن قطبة الطائي ثم النبهاني على عون بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب فقتله، وحمل عامر بن نهشل التيمي على محمد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب فقتله. (وهما ابنا العقيلة زينب بنت علي عليهم رضوان الله وسلامه).
وقال الطبري في "تاريخه" (4/342): عن حميد بن مسلم قال: "خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر في يده السيف عليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ما أنسى أنها اليسرى، فقال لي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي: "والله لأشدن عليه" فقلت له: "سبحان الله، وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم" قال فقال: "والله لأشدن عليه" فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف فوقع الغلام لوجهه، فقال: "يا عماه" قال: فجلى الحسين كما يجلى الصقر ثم شد شدة ليث أغضب، فضرب عمراً بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق فصاح، ثم تنحى عنه، وحملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوا عمراً من حسين فاستقبلت عمراً بصدورها فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه فتوطأته حتى مات. وانجلت الغبرة، فإذا أنا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام (يفحص برجليه) وحسين يقول: "بعد القوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك" ثم قال: "عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوت، والله كثر واتره وقل ناصره" ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض وقد وضع حسين صدره على صدره. قال: فقلت في نفسي: "ما يصنع به؟" فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين وقتلى قد قتلت حوله من أهله بيته، فسألت عن الغلام فقيل: "هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب". وعد ابن الشجري في الأمالي الشجرية قتلى كربلاء، وذكر منهم: "عبدالله رضيع الحسين" وقال: "وقتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة". ثم قال: "عن قطر بن منذر الثوري قال: كان إذا ذكر قتل الحسين بن علي عليهما رضوان الله وسلامه عند محمد بن الحنفية قال: "لقد قتل معه سبعة عشر ممن ارتكض في رحم فاطمة عليها رضوان الله وسلامه". فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال حميد بن مسلم: ولما قعد الحسين، أتى بصبي له فأجلسه في حجره زعموا أنه عبدالله بن الحسين. قال أبو مخنف: قال عقبة بن بشير الاسدي: قال لي أبو جعفر محمد بن على بن الحسين: "إن لنا فيكم يا بني أسد دماً" قال قلت" "فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر وما ذلك؟" قال: "أتى الحسين بصبي له فهو في حجره، إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الحسين دمه، فلما ملأ كفيه صبه في الأرض ثم قال: "رب إن تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين".
وقال هشام: حدثني أبو الهذيل رجل من السكون عن هانئ بن ثبيت الحضرمي قال: "رأيته جالساً في مجلس الحضرميين في زمان خالد بن عبدالله وهو شيخ كبير قال فسمعته وهو يقول: "كنت ممن شهد قتل الحسين" قال: "فوالله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس وقد جالت الخيل وتصعصعت إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه إزار وقميص وهو مذعور يتلفت يميناً وشمالاً فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض حتى إذا دنا منه مال عن فرسه ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف" قال هشام: قال السكوني: "هانئ بن ثبيت، هو صاحب الغلام" فلما عتب عليه كنى عن نفسه".
وقال هشام: حدثني عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال: "عطش الحسين حتى اشتد عليه العطش فدنا ليشرب من الماء فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم من فمه ويرمى به إلى السماء ثم حمد الله وأثنى عليه ثم جمع يديه فقال: "اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تذر على الأرض منهم أحداً".
كل ذلك وعقيلة بني هاشم زينب عليها رضوان الله وسلامه، لا تكل ولا تمل، صامدة إلى جوار أخيها حتى استشهد عليه رضوان الله وسلامه، وهي تكفن الشهيد منهم واحداً تلو الآخر، تغسله بدموعها، وتكفنه بأياديها محتسبة صابرة، حتى استشهد آخر نفر منهم عليهم رضوان الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.
قال الطبري في "تاريخه" (4/348): "حدثني أبو زهير العبسى عن قرة بن قيس التميمي قال: "نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن" قال" فاعترضتهن على فرس فما رأيت منظراً من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك، والله لهن أحسن من مهى يبرين" قال: "فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعاً وهى تقول: "يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعرا مرمل بالدما مقطع الاعضا. يا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا" قال: "فأبكت والله كل عدو وصديق" قال: "وقطف رؤوس الباقين فسرح باثنين وسبعين رأساً".
قال الصفدي في "الوافي بالوفيات" (5/211) في ترجمة ابن ذي الجوشن: "شمر بن ذي الجوشن، أبو السابغة العامري ثم الضبابي حي من بني كلاب" ثم قال: "وفد على يزيد مع أهل البيت، وهو الذي إحتز رأس الحسين على الصحيح، قتله أصحاب المختار في حدود السبعين للهجرة لما خرج المختار وتطلب قتلة الحسين وأصحابه".
وكل ذلك والعقيلة عليها رضوان الله وسلامه ترى بعينها، متفطرة على أخيها وبني هاشم. ولكن لم يكن ذلك الظلم هو آخر المظالم في كربلاء. ولكنه كان جزءاً من أجزاء. حيث لما انتهت المعركة، واستشهد آخر نفر من بني هاشم ورجالهم، التف حول الهاشميات عليهن رضوان الله وسلامه، رجال عبيدالله بن زياد قاتله الله، فأسروهن. فلما كانت العقيلة بين يدي ابن زياد، أراد قتل آخر ولد الحسين عليهم رضوان الله وسلامه، فوقفت تدافع عن سيدنا علي زين العابدين عليه رضوان الله وسلامه الطفل الذي كان قد بقي من نسل سيدنا الحسين عليه رضوان الله وسلامه، والذي أكرم الله عباده فكان النسل الحسيني العظيم منه. ذلك أن ابن زياد أراد تصفية ذلك النسل الشريف، فافتدته العقيلة عليها رضوان الله وسلامه بروحها بصلابة وإصرار، فلما لم يجد منها ضعفاً ولا خوفاً تركه لها.
ولقد ذكرت مئات المصادر والمراجع ومنها سيرة سيدات آل البيت لعائشة عبدالرحمن المعروفة بـ(بنت الشاطئ): أن ابن زياد لعنه الله جلس في القصر وأذن إذناً عاماً، وجيء برأس سيدنا الحسين عليها رضوان الله وسلامه فوضع بين يديه وأدخلت عليه نساء الحسين وصبيانه، وجاءت السيدة زينب ابنة علي عليها رضوان الله وسلامه وجلست متنكرة، فسأل ابن زياد من هذه المتنكرة؟ فقيل له: هذه زينب ابنة علي. فاقبل عليها فقال لعنه الله: الحمد لله الذي فضحكم واكذب أحدوثتكم. فقالت عليها رضوان الله وسلامه: إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق، وهو غيرنا. فقال: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلا خيراً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا بن مرجانة. فغضب اللعين وهم أن يضربها، فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال لها ابن زياد لعنه الله: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك. فقالت عليها رضوان الله وسلامه: لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فلقد اشتفيت. فقال: هذه سجاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت: يا بن زياد ما للمرأة والسجاعة، وإن لي عن السجاعة لشغلاً.
قال ابن حبان في "ثقاته" (2/312)، وغيره: "ثم أنفذ عبيدالله بن زياد رأس الحسين بن علي عليهم رضوان الله وسلامه إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أقتاب مكشفات الوجوه والشعور فكانوا إذا نزلوا منزلاً أخرجوا الرأس من الصندوق وجعلوه في رمح وحرسوه إلى وقت الرحيل ثم أعيد الرأس إلى الصندوق ورحلوا. فبيناهم كذلك إذ نزلوا بعض المنازل وإذا فيه دير راهب فأخرجوا الرأس على عادتهم وجعلوه في الرمح وأسندوا الرمح إلى الدير، فرأى الديراني بالليل نوراً ساطعاً من ديره إلى السماء فأشرف على القوم وقال لهم: "من أنتم؟" قالوا: "نحن أهل الشام" قال: "وهذا رأس من هو؟" قالوا: "رأس الحسين بن علي" قال: "بئس القوم أنتم، والله لو كان لعيسى ولد لأدخلناه أحداقنا" ثم قال: "يا قوم عندي عشرة آلاف دينار ورثتها من أبي وأبي من أبيه، فهل لكم أن تعطوني هذا الرأس ليكون عندي الليلة وأعطيكم هذه العشرة آلاف دينار؟ "قالوا: بلى" فأحدر إليهم الدنانير فجاؤوا بالنقاد ووزنت الدنانير ونقدت ثم جعلت في جراب وختم عليه ثم أدخل الصندوق وشالوا إليه الرأس. فغسله الديران ووضعه على فخذه وجعل يبكي الليل كله عليه. فلما أن أسفر عليه الصبح قال: "يا رأس، لا أملك إلا نفسي وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك رسول الله". فأسلم النصراني وصار مولى للحسين. ثم أحدر الرأس إليهم فأعادوه إلى الصندوق ورحلوا". ثم قال صاحب الثقات: "وكان رئيس من بقي على ذلك الإصرار سنان بن أنس النخعي، ثم أركب الأسارى من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء والصبيان أقتاباً يابسة مكشفات الشعور وأدخلوا دمشق كذلك، فلما وضع الرأس بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينقر ثنيته بقضيب".
وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (3/312): "قال حمزة: وقد حدثني بعض أهلنا أنه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيام".
وقال ابن كثير: "وقيل إن يزيد فرح بقتل الحسين أول ما بلغه ثم ندم على ذلك، فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إن يونس بن حبيب الجرمي حدثه قال: لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسر بقتله أولاً وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى ندم".
وقال الطبري في "تاريخه" (4/349): "وأذن للناس فدخلت فيمن دخل فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه (يعني عبيدالله بن زياد) وإذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له: "اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما" ثم انفضخ الشيخ يبكى. فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. قال: فنهض فخرج فلما خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله. قال فقلت: ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول: (مَلَّكَ عبد عبداً فاتخذهم تلداً أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعداً لمن رضى بالذل)".
وقال الصفدي في "الوافي" (4/263): "وحمل رأس الحسين إلى يزيد، فوضعه في طستٍ بين يديه، وجعل ينكت ثناياه بقضيبٍ في يده، ويقول: "إن كان لحسن الثغر"، فقال له زيد بن أرقم: "ارفع قضيبك، فطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلثم موضعه"، فقال: "إنك شيخ قد خرفت"، فقام زيدٌ يجر ثوبه.
وقال العصامي في "سمط النجوم" (2/117) والصفدي في "الوافي" (6/253): عن أبي مسلم بن الحنفي؛ كنت مع عبدالملك بن مروان حين جيء إليه برأس مصعب بن الزبير، فرأى عبدالملك في اضطرابَاً، فسألني، فقلت: يا أمير المؤمنين، دخلت هذا القصر، يعني: قصر الإمارة بالكوفة، فرأيت رأس الحسين بين يَديْ عبيداللّه بن زياد في هذا الموضع، ثم دخلته فرأيتُ رأسَ ابن زياد بين يَدَي المختار بن أبي عُبَيْدِ الثقفي، ثم دَخَلْتُهُ فرأيت رأسَ المختار بين يدي مصعب بن الزبير، وهذا مصعبْ بين يديك، فوثب عبدالملك متطيراً، وقال: لا أراك الله الخامس، وأمر بهدم القصر حجراً حجراً".
العقيلة الطاهرة، سيدة الخطابة وقاهرة أعداء الله في عقر دارهم.
ولما وصلت العقيلة زينب عليها رضوان الله وسلامه، إلى قصر يزيد الفاسق، نهضت أمامه بكل بسالة وقوة وعزيمة، وهو ما ذكرته مئات الكتب ومنها سيرة سيدات آل البيت لبنت الشاطئ، وقامت قائلة: "أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأُسراء، أنّ بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة. وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذوريك مرحاً، جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) آل عمران/178. أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول الله سبايا، وقد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي، ولا من حماتهن حمي، وكيف يرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأذكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والأحن والأضغان؟! ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لا هلوا واستهلوا فرحاً
ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة تنكثها بمخصرتك. وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشافة، باراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وسلم، ونجوم الأرض من آل عبدالمطلب، وتهتف باشياخك زعمت أنك تناديهم، فلترددن وشيكاً موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت، اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فو الله يا يزيد ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تحملت من دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله تعالى شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران/169. وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم خصيماً، وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك وأمكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً، ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعرفها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تدحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: الا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل. فقال يزيد:
يا صيحة تحمد من صوائح
ما أهون النوم على النوائح
وكان يزيد قد دعى بنساء أهل البيت والصبيان فأجلسوا بين يديه في مجلسه المشوم، فنظر شامي إلى فاطمة بنت الحسين رضي الله عنها فقام إلى يزيد وقال: يا أمير هب لي هذه الجارية تكون خادمة عندي، قالت فاطمة بنت الحسين رضي الله عنها: فارتعدت فرائصي، وظننت أنّ ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب، فقلت: عمتاه أُوتمتُ واستخدم، فقالت عمتي للشامي: كذبت والله ولؤمت، ما جعل الله ذلك لك ولا لأميرك، فغضب يزيد وقال: كذبت والله، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت، قالت: كلا والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا فاستطار يزيد غضباً وقال: إياي تستقبلين بهذا الكلام، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت زينب: بدين أبي وأخي اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلماً، قال: كذبت يا عدوة الله، قالت: يا يزيد أنت أمير تشتم ظالماً، وتقهر بسلطانك، فكأنه إستحيى وسكت. فقال الشامي: من هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين (رضي الله عنها) وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب (رضي الله عنها)، فقال الشامي: الحسين بن فاطمة، وعلي بن أبي طالب؟ قال: نعم، فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، أتقتل عترة نبيك وتسبي ذريته، والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم، فقال يزيد: لا لحقنك بهم، ثم أمر به فضربت عنقه.
ولهذه الحادثة، أفردت الدكتورة عائشة بنت عبدالرحمن (بنت الشاطئ) رحمها الله في "تراجم سيدات بيت النبوة" عما لقيته العقيلة الطاهرة ولقيه أهل البيت النبوي العظام في تلك الواقعة، وما كان من عدو الله ورسوله، يزيد بن معاوية، ننقل اليسير منه (نصاً)، حيث جاء في الصفحات من (628) وحتى (632): (وراحت زينب ترمق رءوس الشهداء من آلهاً واجمة صامتة. حتى إذا بلغوا دمشق، سير بهم تواً إلى حضرة (يزيد بن معاوية) وصرخات النادبات من دوره تملأ الفضاء. وكان يزيد قد دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ووُضعت رأس الحسين (عليه رضوان الله وسلامه) بين يديه ومعه قضيب ينكث به ثغره، فالتفت إلى أصحابه يقول: هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب في إيماننا تقطر الدما
يفلقن هاماً من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فأنشد يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم الأموي:
لهام بجنل الصف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وليس لآل المصطفى اليوم من نسل
فضرب يزيد في صدر يحيى وقال: أسكت. ثم استطرد قائلاً وهو يشير إلى رأس الشهيد: أتدون من أين أتى هذا؟ قال: أبي عليٌّ خير من أبيه، وفاطمة أمي خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر. فأما قوله: أبوه خير من أبي، فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله وعلم الناس أيهما حكم له. وأما قوله: أمي خير من أمه، فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمه. وأما قوله: جدي رسول الله خير من جده، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً أو نداً ولكنه – أي الحسين – أتى من قبل فقهه ولم يقرأ: (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) آل عمران/26. فقال له أبوه أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه: أتنكت بقضيب في ثغر الحسين؟ لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه. أم إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا محمد شفيعه! ثم قام، فولَّى فقال يزيد: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك (جاء في هامشه: الطبري وابن الأثير ومقاتل الطالبيين). ثم أمر فأدخل نساء الحسين عليه، والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول ليسترها عنهما، فلما رأت النساء الرأس صحن، فصاح نساء يزيد في قصره وولولت بنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين: بنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره (جاء في هامشه: الطبري وابن الأثير ومقاتل الطالبيين). وجعل أهل المجلس ينظرون إلى بنات البيت الهاشمي وقد كن – حتى أمس القريب – عزيزات منيعات مصونات. وذكروا عزة آلهن وشرف بيتهن، فغضوا من أبصارهم تهيباً إلا رجلاً من أهل الشام ضخم الجثة أحمر الوجه، ظل يحدق في فاطمة بنت الحسين – وكانت شابة وضيئة – بنظرات جشعة، فأجفلت منه خائفة مشمئزة، وقام الرجل إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه. فأخذت فاطمة بثياب عمتها زينب بنت علي مذعورة ترتجف. فقالت السيدة وهي تحتضن ابنة أخيها الشهيد: كذبت والله ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت. قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فاستثاره قولها غضباً منكراً: إياي تستقبلين بهذا؟ ردت في عناد: بدين الله ودين أبي وأخي اهتديت يا يزيد، أنت وأبوك وجدك. قال محنقاً: كذبت. فهزت رأسها استخفافاً وهي تقول: أنت أمير مسلط، تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك. فلم يجب. وساد القاعة وجوم ثقيل، ثم عاد الشامي يملأ عينيه من فاطمة ويقول: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية. فصاح با أميره: أغرب وهبك الله حتفاً قاضياً (الطبري 6/265). ثم كان المشهد الرهيب. كشف يزيد عن رءوس الشهداء، وعاد يعبث بقضيب في يده بثنايا الحسين الإمام وهو يتمثل بأبيات عبدالله بن الزبعري شاعر قريش يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلوا واستهلوا فرحاً ... ثم قالوا: يا يزيد لا تشلْ
فبكت نساء هاشم إلا العقيلة فإنها انتفضت تصيح في يزيد: صدق الله يا يزيد: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) الروم/10، أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا هواناً على الله، وأن بك عليه كرامة؟ وتوهمت أن هذا لعظيم خطرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفيك جذلان فرحاً، حين رأيت الدنيا مستوثقة لك والأمور متسقة عليك؟ إن الله أمهلك فهو قوله: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) آل عمران/ 178. أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك بناتك وإماءك وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالأسارى قد هتكت ستورهن، وأصلحت أصوانهن، مكتئبات تجرى بهن الأباعر، وتحدو بهن الأعادي من بلد إلى بلد، لا يراقَبن ولا يؤوين، يشوفهن القريب والبعيد، ليس معهن قريب من رجالهن؟ أتقول: (ليت أشياخي ببدر شهدوا) غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنكث ثنايا أبي عبدالله بمخصرتك؟ ولم لا، وقد نكأت القرحة واستأصلت الشافة بإهراقك هذه الدماء الطاهرة ودماء نحوم الأرض من آل عبدالمطلب؟ ولتردن على الله وشيكاً موردهم، وعند ذلك تود لو كنت أبكم أعمى. أيزيد والله ما فريت إلا في جلدك ولا حززت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برغمك، ولتجدن عترته ولحمته من حوله في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم من الشعث: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران/169. وستعلم أنت ومن بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين، إذا كان الحكم ربنا والخصم جدنا، وجوارحك شاهدة عليك. أينا شر مكاناً وأضعف جنداً. فلئن اتخذتنا في هذه الحياة مغنماً، لتجدننا عليك مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة – تعني عبيدالله بن زياد – ويستصرخ بك، وتتعاوى وأتباعك عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد تزودت به: قتل ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فوالله ما اتقيت غير الله، وما شكوت إلا لله، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً. وسكتت. فأطرق يزيد وأطرق كل من كان معه كأن على رؤوسهم الطير) انتهى كلام عائشة بنت عبدالرحمن بنت الشاطئ رحمها الله.
وأمام هذه البطولة والبسالة، يئس يزيد بن معاوية أن يقارع سيدة المتحدثين، وقائدة بني هاشم في هذا المصاب العظيم، فما كان منه إلا أن أمر بإعادتها والهاشميات معها إلى المدينة المنورة عليهن رضوان الله وسلامه أجمعين.
وقفة تاريخية فاحصة في يزيد بن معاوية، رداً على من قال بعدالته.
قيل: إن الشيء بالشيء يذكر. وبالرغم من كون حديثنا منصباً في عقيلة آل البيت عليها رضوان الله وسلامه، إلا أننا رغبنا في هذه العجالة في إلقاء الضوء على بعض مما وثقه أهل التاريخ وخطه أهل العلم بحق يزيد بن معاوية، وذلك بغرض الرد على من قال بعدالته وحقه في الملك، ثم قام يترضى عليه ويذكره بالطيب والخير، أو بمن قال بخطأ سيدنا الحسين عليه رضوان الله وسلامه وعدم صوابه في قتال يزيد بن معاوية. ولقد كان بالإمكان أن نكتفي بما أفردنا وبما فعله بتولية ابن زياد لعنه الله، أو برأس سيدنا الحسين عليه رضوان الله وسلامه، وكذلك بما فعله بالهاشميات بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه من الإثبات ما لا يخفى على عاقل، ولا يغض الطرف عنه إلا كل جاهل سالك بالباطل، متذرعين أن ذلك كله من قول الشيعة الرافضة – نبرأ إلى الله منهم ومن ضلالهم – ولا ندري هل كان ابن كثير والصفدي والعصامي وابن حزم والخوارزمي وابن الأثير والطبري والذهبي وابن حبان وابن الجوزي وابن حجر وابن العماد الحنبلي والآجري والسيوطي والعسقلاني وغيرهم المئات، شيعة رافضة نواصب؟! أم كانوا أعلاماً لأهل السنة الذين نقلوا لنا حقائق الشريعة وسطروا لنا ما تتلمذ طلبة وعلماء السنة على كتبهم! فلم الكف عما قالوا؟ ولم يُغض النظر عما كتبوا ووثقوا؟. فتالله لا يفعل تلك الأفاعيل – وأعني أعداء الله ورسوله، يزيد ابن معاوية وعبيد الله بن زياد وأتباعهم – إلا فاجر زنديق، ولا يقترف ما اقترفوا إلا من كان للشيطان أخاً وتوأماً وخليلاً وصديق. فقبحهم الله بذنوبهم، ولا أذاقهم وأرواحهم من رحماته، وجعل عليهم وعلى أرواحهم جهنم واللعائن والغضب والإنتقام أبد الآبدين.
فقد جاء في "جوامع السيرة" لابن حزم (1/357): (وبويع يزيد بن معاوية، إذ مات أبوه؛ يكنى أبا خالد. وامتنع من بيعته الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبدالله بن الزبير بن العوام. فأما الحسين عليه السلام والرحمة فنهض إلى الكوفة فقتل قبل دخولها. وهو ثالثة مصائب الإسلام بعد أمير المؤمنين عثمان، أو رابعها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخرومه، لأن المسلمين استضيموا في قتله ظلماً علانية. وأما عبدالله بن الزبير فاستجار بمكة، فبقى هنالك إلى أن أغزى يزيد الجيوش إلى المدينة، حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى مكة، حرم الله تعالى، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحرة. وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام وخرومه، لأن أفاضل المسلمين وبقية الصحابة وخيار المسلمين من جلة التابعين قتلوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً. وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تصل جماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا كان فيه أحد، حاشا سعيد بن المسيب فإنه لم يفارق المسجد؛ ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم عند مجرم بن عقبة المري بأنه مجنون لقتله. وأكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنهم عبيد له، إن شاء باع، وإن شاء أعتق؛ وذكر له بعضهم البيعة على حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بقتله فضرب عنقه صبراً. وهتك مسرف أو مجرم الإسلام هتكاً، وأنهب المدينة ثلاثاً، واستخف بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومدت الأيدي إليهم وانتهبت دورهم؛ وانتقل هؤلاء إلى مكة شرفها الله تعالى، فحوصرت، ورمي البيت بحجارة المنجنيق، تولى ذلك الحصين بن نمير السكوني في جيوش أهل الشام، وذلك لأن مجرم بن عقبة المري، مات بعد وقعة الحرة بثلاث ليال، وولى مكانه الحصين بن نمير. وأخذ الله تعالى يزيد أخذ عزيز مقتدر، فمات بعد الحرة بأقل من ثلاثة أشهر وأزيد من شهرين. وانصرفت الجيوش عن مكة".
وذكر الخوارزمي الحنفي في "مقتل الحسين" (1/180)، أن يزيد قد أمر عبيدالله بقتل الحسين بل وقتل كل من لم يبايع ممن ذكرهم سابقاً، وإليك لفظه بعينه: (ثم كتب صحيفة صغيرة كأنها أذن فأرة: (أما بعد, فخذا الحسين وعبدالله بن عمر وعبدالرحمن بن أبي بكر وعبدالله بن الزبير بالبيعة أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة , فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه, والسلام) انتهى كلام الخوارزمي الحنفي رحمه الله.
ونقل ابن الأثير في "الكامل" (3/466، 467): رسالة ابن عباس عليهم رضوان الله ليزيد بعد مقتل الحسين (عليه السلام), وطلب يزيد لمودته وقربه بعد امتناع ابن عباس عن بيعة ابن الزبير فقال: (أما بعد فقد جائني كتابك فأما تركي بيعة ابن الزبير فوالله ما أرجو بذلك برك ولا حمدك ولكن الله بالذي أنوي عليم وزعمت أنك لست بناس بري فأحبس أيّها الإنسان برك عني فإني حابس عنك بري وسألت أن أحبب الناس إليك وأبغضهم وأخذلهم لابن الزبير فلا ولا سرور ولا كرامة كيف وقد قتلت حسيناً وفتيان عبدالمطلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرحلين بالدماء مسلوبين بالعراء مقتولين بالظماء لا مكفنين ولا مسودين تسفي عليهم الرياح وينشي بهم عرج البطاح حتى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم كفنوهم وأجنوهم وبي وبهم لو عززت وجلست مجلسك الذي جلست فما أنسى من الأشياء فلست بناس اطرادك حسيناً من حرم رسول الله إلى حرم الله وتسييرك الخيول إليه فما زلت بذلك حتى أشخصته إلى العراق فخرج خائفاً يترقب فنزلت به خيلك عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً فطلبت إليكم الموادعة وسألكم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته وتعاونتم عليه كأنكم قتلتم أهل بيت من الترك والكفر, فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودي وقد قتلت ولد أبي وسيفك يقطر من دمي وأنت أحد ثاري ولا يعجبك إن ظفرت بنا اليوم فلنظفرن بك يوماً والسلام) انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله.
وقال ابن حجر المكي في "الصواعق" (134) وقد صرّح بقتل يزيد للحسين (عليه السلام) أقرب الناس إلى يزيد وهو معاوية ابنه: (لما ولي معاوية بن يزيد صعد المنبر فقال: إن هذه الخلافة حبل الله, وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه علي بن أبي طالب, وركب بكم ما تعلمون, حتى أتته منيته فصار في قبره رهيناً بذنوبه, ثم قلد أبي الأمر وكان غير أهل له, ونازع ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقصف عمره وانبتر عقبه وصار في قبره رهيناً بذنوبه, ثم بكى وقال: إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه, وقد قتل عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) , وأباح الخمر, وخرب الكعبة). انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
وأما من أفتى من أهل السنّة بكفر يزيد وجواز لعنه, فنقول: قد أفتى مئات علماء أهل السنة من السلف بلعنه وضلاله وكفره، ومن هؤلاء، سبط ابن الجوزي والقاضي أبو يعلى والتفتازاني والجلال السيوطي وغيرهم من أعلام السنّة القدامى، وننقل بعضاً من أقوالهم للإستدلال لا الحصر:
وقال ابن العماد الحنبلي في "شذرات من ذهب" (1/68): قال اليافعي: (وأمّا حكم من قتل الحسين, أو أمر بقتله, ممّن استحلّ ذلك فهو كافر). وقال التفتازاني في "شرح العقائد النفسية": (والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين, واستبشاره بذلك, وإهانته أهل بيت الرسول ممّا تواتر معناه, لعنة الله عليه, وعلى أنصاره وأعوانه). وقال الذهبي: (كان ناصيباً فظاً غليظاً, يتناول المسكر ويفعل المنكر, افتتح دولته بقتل الحسين, وختمها بوقعة الحرّة). وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (8/223): (إن يزيد كان إماماً فاسقاً). وقال المسعودي في "مروج الذهب" (3/82): (ولمّا شمل الناس جور يزيد وعماله وعمّهم ظلمه وما ظهر من فسقه ومن قتله ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنصاره وما أظهر من شرب الخمر, سيره سيرة فرعون, بل كان فرعون أعدل منه في رعيّته, وأنصف منه لخاصّته وعامّته أخرج أهل المدينة عامله عليهم, وهو عثمان بن محمّد بن أبي سفيان).
وروى ابن الأثير في "الكامل" (3/310) والسيوطي في "تاريخ الخلفاء" (165): أنّ عبدالله بن حنظلة الغسيل قال: (والله ما خرجنا على يزيد, حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء, أنّه رجل ينكح أمّهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة).
وصنّف أبو الفرج ابن الجوزي الفقيه الحنبلي كتاباً في الردّ على من منع لعن يزيد وأسماه (الردّ على المتعصّب العنيد)، وما هو إلا واحد من مئات الكتب التي ذكرت سيرة هذا اللعين قاتله الله بعدله.
وعن أحمد بن محمد بن يزيد عن أبي نعيم، قال: (حدثني حاجب عبيدالله بن زياد أنه لما جيئ برأس الحسين عليه رضوان الله وسلامه أمر فوضع بين يديه في طست من ذهب، وجعل يضرب بقضيب في يده على ثناياه ويقول: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبدالله، فقال رجل من القوم: مه فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلثم حيث تضع قضيبك فقال: يوم بيوم بدر، ثم أمر بعلي بن الحسين عليه رضوان الله وسلامه فغل وحمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنت معهم، فما مررنا بزقاق إلا وجدناه ملاء رجال ونساء يضربون وجوههم ويبكون، فحبسوا في سجن وطبق عليهم. ثم إن ابن زياد دعا بعلي بن الحسين والنسوة وأحضر رأس الحسين عليه رضوان الله وسلامه وكانت زينب بنت علي بن أبي طالب عليها رضوان الله وسلامه فيهم، فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحاديثكم، فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد، وطهرنا تطهيراً إنما يفضح الله الفاسق، ويكذب الفاجر، قال: كيف رأيت صنيع الله بكم أهل البيت؟ قال: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاكمون عنده، فغضب ابن زياد عليها وهم بها فسكن منه عمرو بن حريث، فقالت زينب: يا ابن زياد، حسبك ما ارتكبت منا فلقد قتلت رجالنا، وقطعت أصلنا وأبحت حريمنا، وسبيت نساءنا وذرارينا، فان كان ذلك للاشتفاء فقد اشتفيت، فأمر ابن زياد بردهم إلى السجن، وبعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين عليه رضوان الله وسلامه ثم أمر بالسبايا ورأس الحسين فحملوا إلى الشام فلقد حدثني جماعة كانوا خرجوا في تلك الصحبة أنهم كانوا يسمعون بالليالي نوح الجن على الحسين إلى الصباح، وقالوا: فلما دخلنا دمشق ادخل بالنساء والسبايا بالنهار مكشفات الوجوه فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء فمن أنتم؟ فقالت سكينة بنت الحسين عليها رضوان الله وسلامه: نحن سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فاقيموا على درج المسجد حيث يقام السبايا وفيهم علي بن الحسين عليهم رضوان الله وسلامه وهو يومئذ فتى شاب، فأتاهم شيخ من أشياخ أهل الشام فقال لهم: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وقطع قرن الفتنة، فلم يأل عن شتمهم، فلما انقضى كلامه، قال له علي بن الحسين عليه رضوان الله وسلامه: أما قرأت كتاب الله عزوجل قال: نعم، قال: أما قرأت هذه الآية "قل لاأسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" قال: بلى، قال: فنحن اولئك، ثم قال: أما قرأت "وآت ذا القربى حقه" قال: بلى، قال: فنحن هم، فهل قرأت هذه الآية "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" قال: بلى، قال: فنحن هم، فرفع الشامي يده إلى السماء ثم قال: اللهم إني أتوب إليك ثلاث مرات، اللهم إني أبرء إليك من عدو آل محمد ومن قتلة أهل بيت محمد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم. ثم ادخل نساء الحسين عليه رضوان الله وسلامه على يزيد بن معاوية، فصحن نساء آل يزيد وبنات معاوية وأهله، وولولن وأقمن المأتم، ووضع رأس الحسين عليه رضوان الله وسلامه بين يديه فقالت سكينة عليها رضوان الله وسلامه: ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه، ولا أجفى منه، وأقبل يقول وينظر إلى الرأس: ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل ثم أمر برأس الحسين فنصب على باب مسجد دمشق، فروي عن فاطمة بنت علي عليهما رضوان الله وسلامه أنها قالت: لما اجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رق لنا أول شئ وألطفنا، ثم إن رجلاً من أهل الشام أحمر قام إليه فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية، يعنيني، وكنت جارية وضيئة، فارعبت وفرقت، وظننت أنه يفعل ذلك، فأخذت بثياب أختي وهي أكبر مني وأعقل (وتعني عمتها زينب بنت علي عليها رضوان الله وسلامه)، فقالت: كذبت والله ولعنت ما ذاك لك ولا له، فغضب يزيد، وقال: بل كذبت والله لو شئت لفعلته، قالت: لا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا، فغضب يزيد ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وجدك وأبوك، قال: كذبت يا عدوة الله قالت: أمير يشتم ظالماً ويقهر بسلطانه؟ قالت: فكأنه استحيى فسكت.
وروى الترمذي في صحيحه وأحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم رضوان الله وسلامه: (أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم) صحيح الترمذي. فما بال من قاتلهم وقتلهم ثم نكث بقضيب في يديه ثناياً قبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!.
وروى الآجري في "الشريعة" (4/291) وابن عساكر في "تاريخه" (13/209) وابن عدي في "الكامل" (2/119) وابن منظور في "المختصر" (2/398) عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أراد أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسين ابن علي). وعند ابن ماجه في سننه في باب فضل سيدنا علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه قال: (حدثنا محمد بن موسى الواسطي حدثنا المعلى بن عبدالرحمن حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما). فما قول المسلم العاقل فيمن قتل هؤلاء الأجلاء أو قتل أحدهم! بل وما قول أصحاب المروءة – حتى من غير المسلمين – في ثلاثة آلاف يقاتلون اثنان وسبعون رجلاً ويمنعونهم العودة إلى ديارهم ثم يمنعون عنهم الماء ويقتلون الأطفال ويأسرون النساء، وهم من ذرية نبي يؤمنون به وبرسالته ويقولون بذلك كأول أركان الإسلام، وقد أخرجهم من الضلال إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور!.
وقال السيوطي في "تاريخ الخلفاء" (207): "فقتل وجيء برأسه في طست (يعني سيدنا الحسين عليه رضوان الله وسلامه) حتى وضع بين يدي ابن زياد لعن الله قاتله وابن زياد معه ويزيد أيضاً" انتهى كلام السيوطي رحمه الله.
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (30) في الجزء الخاص بأحداث السنوات من (61) وحتى (80): "قلت ولما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل وقتل الحسين وأخوته وآله وشرب يزيد الخمر وارتكب أشياء منكرة بغضه الناس وخرج عليه غير واحد ولم يبارك الله في عمره". انتهى كلام الذهبي رحمه الله.
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (8/243): "وقد أخطأ يزيد خطأ فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا خطأ كبير فاحش مع ما أنضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم وقد تقدم أنه قتل الحسين وأصحابه على يدي عبيدالله بن زياد وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما يحد ولا يوصف". ثم قال رحمه الله: (وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك، وكان ذا جمال وحسن معاشرة، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات، وترك الصلوات في بعض أوقاتها، وإماتتها في غالب الأوقات) انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
وجاء عند الطبري في "تاريخه" (4/352): (إن عبيدالله أمر بنساء الحسين وصبيانه فجهزن وأمر بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحداً منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع محفز بن ثعلبة صوته فقال هذا محفز بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة) انتهى كلام الطبري رحمه الله.
ثم قال الطبري في (4/353): (... قالت ثم إن رجلاً من أهل الشأم أحمر قام إلى يزيد فقال يا أمير المؤمنين هب لى هذه يعنينى وكنت جارية وضيئة فأرعدت وفرقت وظننت أن ذلك جائز لهم وأخذت بثياب أختي زينب، قالت: وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل وكانت تعلم أن ذلك لا يكون، فقالت: كذبت والله ولؤمت ما ذلك لك وله. فغضب يزيد فقال: كذبتِ والله إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلت قالت: كلا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا، قالت: فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياى تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك قال: كذبت يا عدوة الله، قالت: أنت أمير مسلط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، قالت: فوالله لكأنه استحيا فسكت ثم عاد الشامي فقال: يا أمير المؤمنين هب لى هذه الجارية، قال: أعزب وهب الله لك حتفاً قاضياً) انتهى كلام الطبري رحمه الله. وكذا أورده بصيغته تاريخ البداية والنهاية وتاريخ دمشق نفسه.
وقال العسقلاني في "الإصابة" (3/145) عند تعريفه بأمير جيش يزيد بن معاوية على المدينة، مسلم بن عقبة، وهو من عينه وأوصاه وأمره بما يفعل بأهل المدينة النبوية: (مسلم بن عقبة بن رباح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف المري أبو عقبة الأمير من قبل يزيد بن معاوية على الجيش الذين غزوا المدينة يوم الحرة. ذكره بن عساكر وقال: أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهد صفين مع معاوية وكان على الرجالة. وعمدته في إدراكه أنه استند إلى ما أخرجه محمد بن سعد في الطبقات عن الواقدي بأسانيده قال: لما بلغ يزيد بن معاوية أن أهل المدينة أخرجوا عامله من المدينة وخلعوه وجه إليهم عسكراً أمر عليهم مسلم بن عقبة المري وهو يومئذ شيخ بن بضع وتسعين سنة فهذا يدل على أنه كان في العهد النبوي كهلاً. وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة وأسرف في قتل الكبير والصغير حتى سموه مسرفاً وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون ثم رفع القتل وبايع من بقي على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية وتوجه بالعسكر إلى مكة ليحارب بن الزبير لتخلفه عن البيعة ليزيد فعوجل بالموت فمات بالطريق وذاك سنة ثلاث وستين واستمر الجيش إلى مكة فحاصروا بن الزبير ونصبوا المنجنيق على أبي قبيس فجاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية) انتهى كلام العسقلاني.
وقال عنه الزركلي في "الأعلام" (7/222): (مسلم بن عقبة بن رباح المري، أبو عقبة، قائد من الدهاة القساة في العصر الأموي. أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهد صفين مع معاوية، وكان فيها على الرجالة. وقلعت بها عينه. وولاه يزيد بن معاوية قيادة الجيش الذى أرسله للإنتقام من أهل المدينة بعد أن أخرجوا عامله، فغزاها وآذاها وأسرف فيها قتلاً ونهباً (في وقعة الحرة) فسماه أهل الحجاز (مسرفاً) وأخذ ممن بقي فيها البيعة ليزيد، وتوجه بالعسكر إلى مكة ليحارب ابن الزبير، لتخلفه عن البيعة ليزيد، فمات في الطريق بمكان يسمى المشلل. ثم نبش قبره وصلب في مكان دفنه (ثم قال في هامشه: الاصابة (8416) والطبري (7/14) ونسب قريش (127) وانظر فهرسته) انتهى كلام الزركلي رحمه الله.
قال ابن الأثير في الكامل في التاريخ (569:2):."يزيد بن معاوية: هو الخليفة الأموي المجرم الفاسق الذي ارتكب مذبحة كربلاء بأمره. ولد عام 25هـ وكان صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة" انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله.
وقال المسعودي في "مروج الذهب" (3/67): "كان يزيد يضمر الإلحاد ولا يعتقد بالمعاد، وفي أيامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب". ثم قال (3/72): "وفي عام 64هـ أرسل نفس ذلك الجيش (يعني الجيش المقاتل للحسين رضي الله عنه) لقمع ثورة عبدالله بن الزبير بمكة رضي الله عنه، فهجم عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرق البيت الحرام وهدمه وقتل خلقاً كثيراً من أهلها" انتهى كلام المسعودي رحمه الله.
وقال السبط ابن الجوزي في "تذكرة الخواص" (164): "ما رأيكم في رجل حكم ثلاث سنين؛ قتل في الأولى الحسين بن علي، وفي الثانية أرعب المدينة وأباحها لجيشه، وفي السنة الثالثة ضرب بيت الله بالمنجنيق". وهي إشارة إلى واقعة كربلاء، وواقعة الحرّة التي ثار فيها أهل المدينة ضد واليها وأخرجوه منها وسائر بني أمية، وذلك من بعد أن انكشف لديهم فسق يزيد وكثرة جرائمه. فبعث إليهم يزيد مسلم بن عقبة على رأس جيش فقتل أهلها واستباحها) انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله.
وقال الزبيري في "نسب قريش" (127)، وابن قتيبة في "الإمامة والسياسة" (1/163) واليعقوبي في "تاريخه" (2/220) وابن أعثم الكوفي في "الفتوح" (5/17) والمسعودي في "مروج الذهب" (3/77) وغيرهم: "إن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً، مغرماً بالصيد وشرب الخمر، وتربية الفهود والقرود، والكلاب … الخ".
وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/483) ومنهاج السنة (4/573): "قال صالح بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: إن قوماً يقولون إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟".
وقال ابن الجوزي في "المنتظم" (5/322) وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (4/483): "وقد رفض الإمام أحمد رواية الحديث عن يزيد لظلمه وجوره. فقال الحافظ ابن الجوزي: "أسند يزيد بن معاوية الحديث، فروى عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإسنادنا إليه متصل. غير أن الإمام أحمد سئل: "أيُروى عن يزيد الحديث؟" فقال: لا ولا كرامة. فلذلك امتنعنا أن نسند إليه". وفي منهاج السنة (4/575): ثم زاد ابن تيمية: "قال: لا، ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟". قلت: فمن أمر أمير الجند لقتال أهل المدينة واستباحتها؟ ثم هل أوصاه بالخير إن لقي أي أهل المدينة أم كان أمره واضحاً صريحاً بالقتل وسفك الدماء؟ ثم ماذا فعل يزيد بن معاوية بهؤلاء الجند وقد عاثوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيولهم ودنسوا أرضه الطاهرة بروث بهائمهم؟ هذا إن كان يعرف الإسلام أو طريق الإسلام أو حرمة بيوت الله فكيف بحرمة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم هل كان يجرؤ أمير جنده أن يأتِ بفعل يعلم أو يظن أو يعتقد أنه منهي عنه في عرفه وحكمه؟ فلو كان ذلك كله لقلنا بما قال ابن تيمية في براءة يزيد بن معاوية مما حصل في بلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتل الصحابة والتابعين بها، وإستباحة الأعراض والأموال.
وقال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/37): "وكان (يعني يزيد بن معاوية) ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر. افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة. فمقته الناس ولم يبارَك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين، كأهل المدينة قاموا له، وكمرداس بن أدية الحنظلي البصري، ونافع بن الأزرق، وطواف بن معلى السدوسي، وابن الزبير بمكة" انتهى كلام الذهبي رحمه الله.
وذكر ابن حجر العسقلاني في "الصواعق المحرقة" (134) خطبة معاوية بن يزيد بن معاوية في ذمّ أبيه وجدّه، قال: "ومات (يعني يزيد بن معاوية) سنة أربع وستين لكن عن ولد شاب صالح عهد إليه فاستمر مريضاً إلى أن مات ولم يخرج إلى الناس ولا صلى بهم ولا أدخل نفسه في شيء من الأمور، وكانت مدة خلافته أربعين يوماً وقيل: شهرين، وقيل: ثلاثة أشهر، ومات عن إحدى وعشرين سنة، وقيل: عشرين، قال: ومن صلاحه الظاهر أنّه لما ولي صعد المنبر فقال: "إن هذه الخلافة حبل الله وأن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منه، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته فصار في قبره رهيناً بذنوبه. ثم قلد أبي الأمر وكان غير أهل له ونازع ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصف عمره وانبتر عقبه وصار في قبره رهيناً بذنوبه" ثم بكى وقال: "من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبؤس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباح الخمر وخرب الكعبة ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلد مرارتها فشأنكم أمركم، والله لئن كانت الدنيا خيراً فقد نلنا منها حظاً، ولئن كانت شراً فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها". ثم تغيب في منزله حتى مات بعد أربعين يوماً كما مر، فرحمه الله أنصف من أبيه وعرف الأمر لأهله" انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
فهذه قطرات من سيرة عدو الله ورسوله والدين والمروءة، يزيد بن معاوية الذي يترضى عليه جهلة القوم. وهؤلاء هم قادة جيوشه الذين عينهم وأمرهم فما فعلوا إلا ما أمروا به، ثم ارتضى فعلهم فلم يعاقب منهم أحداً ولم يقصي منهم ظالماً، مما يؤكد رضاه على كل ما فعلوه. وما هذا الذي أرودناه إلا قطرة من بحار ما كتب عن هذا الفاجر الفاسق الزنديق لعنة الله عليه وملائكته والناس أجمعين أبد الآبدين. ثم نرى بعض الجهلة يقفون متنطحين بالترضي عليه وتمجيده والدفاع عنه وهو العدو الأكبر اللدود للإسلام والمسلمين والصحابة وآل البيت الأطهار، فبأي حديث يتحدث هؤلاء، وبأي منطق يتبجحون ويضلون ويضللون من بعدهم عباد الله. وبهذا قدر الكفاية. فماذا بعد أيها المتأمل الحصيف، ونحن لم نكتب بحق هذا الزنديق، وإنما نقلنا لكم ما سطرته أمهات الكتب وثقاتها.
عوداً إلى بيت النبوة وآخر محطات الألم.
عادت العقيلة عليها رضوان الله وسلامه إلى مدينة جدها حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أودعت آخر أحبتها وتوائم روحها الحسين عليه رضوان الله وسلامه، ومعه اثنان وسبعون هاشمياً من ابن عم وابن أخ وفلذتي كبدها عوناً ومحمداً، وعاد معها الهاشميات العظام عليهن رضوان الله وسلامه أجمعين. عادت إلى بيت الزوجية، إلى بعلها عبدالله بن جعفر، وإلى من بقي من أبنائها، علي الزينبي وعباس وأم كلثوم. عادت بعد أن لقنت أهل الظلم والفجور، أهل الضلال والظلم، كيف تكون حفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كيف تكون ابنة البضعة الطاهرة عليها رضوان الله وسلامه. كيف تكون ابن أمير المؤمنين أبو السبطين علي الهزبر الأجل عليه رضوان الله وسلامه. كيف تكون شقيقة الحسنين العظيمين سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرة عينه. كيف أن المرأة بإيمانها وعزيمتها وثباتها على طريق الحق تستطيع أن تهزم جيشاً جراراً، فلا هي جبنت، ولا هي طأطأت الرأس ولا هي رجت الشفاعة من ظالم، ولكنها وقفت راسخة تلقمهم المرار وتدع في قلوبهم الآلام إلى أن يلقوا الله فيروا ما أعد الله لهم من مصير بقتلهم أهل بيت النبوة.
عادت العقيلة إلى طيبة الطيبة، ولطنها لم تعد لتستكن أو تهدأ، ولا أن تضعف بجلوسها إلى جوار زوجها وبنيها، ولكنها عادت ولم تبق عليها رضوان الله وسلامه منبراً إلا وصعدته ولا محفلاً إلا وناجته، ولا جمعاً إلا وخاطبته، ولا بيتاً إلا وعلمته، تصف للعالم أجمع وتنقل لهم الصورة الحقيقية الكاملة لما كان من أمر ابن زياد ويزيد، تلك الحقائق التي لطالما سعى الكثير إلى إخفائها حتى في عصرنا الحالي. ومن خلفها زوج يعلم أنهم أهل بيت لا يسكت عندهم على الحق، ولا تخفى الحقائق على الجمع. وأنه ما كان إلا زوجاً لصقر حر بالحق والثبات طائر، ينشر العلم والحقائق، لا يعرف الخوف ولا الرضوخ، أسد ثائر. ليأبى ظلم الظالمين إلا أن يلحق بها، وليزيد طغيان يزيد بن معاوية غياً على غيه، رغبة أن تطمس الحقائق، حتى وإن كان على حساب التفريق بين زوج تجاوز الستين من العمر وزوجته، وأم ومن بقي من أبنائها، وأخت لم يعد لها من بيت أبيها سوى أخت واحدة، السيدة الجليلة أم كلثوم عليهم جميعاً رضوان الله وسلامه، ومدينة بجدها كان بزوغ نور نشر الرسالة الإسلامية، ومسجد ولدت جواره إلى جوار حجرات بيت النبوة.
وفي هذا ، يذكر النسابة العبيدلي في "أخبار الزينبيات" على ما حكاه عنه مؤلف كتاب السيدة زينب: "أن زينب الكبرى عليها رضوان الله وسلامه بعد رجوعها من أسر بني أمية إلى المدينة، أخذت تؤلب الناس على يزيد بن معاوية، فخاف عمرو بن سعد الأشدق انتقاض الأمر، فكتب إلى يزيد بالحال، فأتاه كتاب يزيد يأمره بأن يفرق بينها وبين الناس، فأمر الوالي بإخراجها من المدينة إلى حيث شاءت، فأبت الخروج من المدينة وقالت: "فوالله لا أخرج وإن أهرقت دماؤنا"، فقالت لها زينب بنت عقيل عليهما رضوان الله وسلامه: "يا ابنة عمّاه، قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوء منها حيث نشاء، فطيبي نفساً وقري عيناً، وسيجزي الله الظالمين. أتريدين بعد هذا هواناً؟ ارحلي إلى بلد آمن". ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام، فاختارت مصر، وخرج معها من نساء بني هاشم فاطمة ابنة الحسين وسكينة عليهن رضوان الله وسلامه".
وقد ذكر ذلك أيضاً ابن عساكر في "تاريخه"، والمؤرخ ابن طولون الدمشقي في "الرسالة الزينبية" والعلامة المناوي في "طبقاته"، والعلامة "السيوطي" في "رسالته الزينبية".
كان خروجها من المدينة المنورة آخر محطات الألم التي عاشتها عقيلة بني هاشم وزهرة آل البيت عليها رضوان الله وسلامه، بعد أن فارقت جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمها وأبيها وأخيها الحسن وأخيها الحسين وأبناء أخويها وابنيها الذين استشهدوا جميعاً في كربلاء وابنها العباس الذي توفي صغيراً عليهم رضوان الله وسلامه، وها هي اليوم تفارق زوجها وابنها علي وابنتها أم كلثوم، وشقيقتها أم كلثوم عليهم رضوان الله وسلامه أجمعين.
فلما كان وقت الرحيل، أودعت زوجها وذريتها الباقية وأختها السيدة أم كلثوم عليهم رضوان الله وسلامه أجمعين مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوجهت إلى أرض الكنانة مصر. حيث استقبلها هناك مسلمة بن مخلد الأنصاري الخزرجي وشعب مصر في أطراف الصحراء في شعبان عام واحد وستين للهجرة بعد ما يقرب من سبعة أشهر على موقعة كربلاء الحزينة، عاشتها بين بعلها وبنيها وبيتها وشقيقتها وبيت جدها صلى الله عليه وآله وسلم وبيت أبيها وأمها واخوتها وموضع ولادتها عليهم رضوان الله وسلامه. واستقبلت استقبال الملكات العظيمات، لما علمه والي مصر وأهل مصر لها من مقام وفضل، ثم أنزلها داره بالحمراء وجعل لها جناحاً خاصاً بها، وجعل لكل يوم من أيامها خصوصيته، فيوم لتعليم أهل مصر أمور دينهم، ويوم تعرض فيه أمور الرعية فتنظر فيها، ويوم لتحفيظ القرآن الكريم، ويوم للحديث، وغيره، فلما حان موعد لقائها بالباري عز وجل، أرسلت لزوجها أن تزوج من أختي أم كلثوم من بعدي، ففعل.
موعد اللقاء بخالقها وباريها، عليها رضوان الله وسلامه.
لقيت الله تعالى بأبي هي وأمي وروحي عليها رضوان الله وسلامه بعد عام ونصف تقريباً من استشهاد أخيها الحسين العظيم عليه رضوان الله وسلامه، وكان ذلك في السابع عشر من شهر رجب عام اثنان وستون للهجرة على أصدق الروايات، ووري جسدها الطاهر الشريف في حجرتها في دار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى، حيث بساتين عبدالله بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، وصلت عليها جموع مصر، وضجت أرض الكنانة لفراقها، وعمت الأحزان ربوع البلاد، وفتح أهل مصر دورهم يتقبلون العزاء بفقدهم أعظم من وطأ أرضهم وأجل من جاورهم. وضريحها اليوم داخل مسجد يسمى مسجد السيدة زينب يقصده زوارها. عليها رضاه ورضوانه وسلامه وبركاته يوم ولدت ويوم لقيت ربها ويوم تبعث بين يدي الله تعالى.
في ختام العجالة.
في ختام هذه العجالة عن سيرة السيدة العقيلة عليها رضوان الله وسلامه، بقي أن نذكر ومن باب تبيان الحقائق، أن ما قاله أهل الطائفة الشيعية، وما يقوله أهل الشام، بوجود ضريح السيدة زينب لديهم في الأراضي الشامية، وتسمية أحد الأضرحة باسمها هناك، وأنها عليها رضوان الله وسلامه قد انتقلت برفقة زوجها إلى الشام بعد عودتها من كربلاء إلى المدينة المنورة تلبية لطلب يزيد بن معاوية، وهناك أنجبت السيدة العقيلة أبنائها الأربعة (عبد الله، جعفر، عثمان، والعون)، أن ذلك ما هو إلا محض تدليس وافتراء لا أساس له من الصحة مطلقاً، بل ولا يمكن قبوله تاريخياً قط، نبين بطلانه بالأدلة والشواهد:
لقد سبق وأن ذكرنا ما كان بين السيدة العقيلة عليها رضوان الله وسلامه، ويزيد بن معاوية بعد موقعة كربلاء، وهو ما أثبتته أعظم الكتب صدقاً ومصداقية، بخلاف المراجع التي حاولت تبرئة يزيد بن معاوية من تلك الموقعة، وما أحدثه بالهاشميات عليهن رضوان الله وسلامه.
ذكرنا من قبل أنها عليها رضوان الله وسلامه، بعد عودتها من أرض الشام إلى المدينة المنورة، لم تترك منبراً إلا وصعدت عليه تصف للقاصي والداني ما حدث من ظلم وبطش في كربلاء وما نزل ببنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يزيد. ثم ما جاء من أمر يزيد لعنه الله بخروجها من المدينة المنورة لأي بقة سوى مكة المكرمة والمدينة المنورة، واستقبال مسلمة بن مخلد الأنصاري الخزرجي وشعب مصر لها، وهو الأمر الذي أثبتته أعظم الكتب صدقاً ومصداقية. ولم يثبت قط بعد ذلك خروجها عليها رضوان الله وسلامه، من مصر على الإطلاق.
لا يمكن لعقل واعٍ ولا لإنسان يملك جزءً من عقل واتزان، أن يقبل مقولة أنها عليها رضوان الله وسلامه، وبعد أن فُعل بها ما فُعل من يزيد بن معاوية وأعوانه، أن تعود وزوجها وأبنائها إلى الشام، تلك الديار التي حكمها ويحكمها قاتل أخيها وابنيها وبني هاشم أمام أعينها، وهو الأمر الذي ينفي مقامها في أرض الشام.
لم يثبت قط، أنها عليها رضوان الله وسلامه، قد أنجبت من الأبناء (عبد الله وجعفر وعثمان وعون)، بل الثابت بكل الشواهد أن ابنيها عوناً ومحمداً قد استشهدا بين يدي أخيها سيدنا الحسين عليهم رضوان الله وسلامه، فأين محمد في قائمة بنيها الذين ينادي بهم أهل الطائفة الشيعية وأنصارها!. ثم ذلك الإدعاء بأن من أبنائها عبدالله، في الوقت الذي كان زوجها هو عبدالله الجواد بن جعفر الطيار بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه، وليس ابنها. أما الثالثة، فأين علي الزينبي جد الأسرة الجعفرية في تلك القائمة الثابت والمثبت!. وذلك كله يثبت بطلان ما يقوله القوم في بنيها وضريحها.
بعد هذا الاستعراض المختصر، فإن الأمر الذي يقول به أهل الشام، وكذلك أهل الطائفة الشيعية، إنما هو أمر باطل لا أساس له من الصحة، ويدحض ما أوردنا ما قالوه من أدلة وزعموا معه ذلك الضريح المزعوم لها عليها رضوان الله وسلامه تارة في الشام وتارة في إيران. وأما الثابت، فهو ما ذكرنا قبلاً عن أعظم المراجع تأكيداً وصدقاً، أن ضريحها عليها رضوان الله وسلامه في أرض مصر، وفي المسجد المسمى بمسجد السيدة زينب بحي السيدة زينب في مدينة القاهرة.
سلام الله عليك يا أماه يوم ولدت ويوم انتقلت ويوم تبعثين بين يدي الله تعالى إلى جوار جدك الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأبوك الهمام وأمك البضعة الطاهرة وأخواك سيدا شباب أهل الجنة وبعلك وبقية أهل بيت النبوة والآل عليهم جميعاً رضوان الله وبركاته ورحماته.
والحمد لله رب العالمين.