محمد بن جعفر الطيار بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه
بقلم الفقير الذليل لربه تعالى، حسان بن محمدعلي بن عمر الطيار
مقدمة.
الحمد لله الذي قضى بحكمه ما شاء. الحمد لله الذي قدر الأقدار بين عباده كما يشاء. الحمد لله الذي خلق الخلق فاصطفى منهم من يشاء، لحكمة لا يعرفها غيره سبحانه وتعالى شاء بأمره ما شاء. الحمد لله القائل في محكم التنزيل، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الواقعة/10-12. وأشرف الصلاة وأتم التسليم على سيد الأولين والآخرين، وتاج كائنات الله أجمعين، المبعثون رحمة مهداة من رب العالمين للعالمين، الذي أخرج الله تعالى به عباده من الظلمات إلى النور وهداهم إلى صراط الله المستقيم، سيدنا وإمامنا ومولانا ونبينا وحبيبنا محمد بن عبدالله قائد الغر المحجلين وعلى أهل بيته الأطهار وآله الأخيار وقرابته وأصحابه النجباء وعموم الأنبياء والمرسلين أجمعين وبعد:
فلقد شاء الله عز وجل أن يصطفى من عباده ما شاء لهم، لحكمة وعلم هي له سبحانه وتعالى، هؤلاء الذين مهما كتب الكاتبون، وأرخ المؤرخون، وسطر المسطرون، وخلد التاريخ بحقهم ما خلد، فإنهم لن يوفوهم حقهم وقدرهم أبداً، ولن يستطيعوا أن يحصوا شمائلهم وخصائصهم. ذاك أن إصطفاء الله تعالى لهم فاق ويفوق قدرات من أراد أن يكتب عنهم. ولذلك كله ترى الأقلام تعجز، والمداد يجف، والعمر ينقضي دون أن تجد البشرية حصراً شاملاً وتأريخاً كاملاً لهؤلاء العظماء، والذي أراد الله تعالى أن يكون منهم، سيد من السادات الذين اصطفاهم، الذين قال بهم صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) رواه مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
اسمه ونسبه عليه رضوان الله وسلامه.
هو الصحابي الجليل، رفيع المقام، عظيم الشأن، سليل النسب الطاهر، أشبه الناس بجده أبي طالب بن عبدالمطلب، سيدنا أبو القاسم محمد بن ذي الجناحين جعفر الطيار بن أبي طالب بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي. شقيق ساداتنا عبدالله وعون، أباً وأماً عليهم رضوان الله وسلامه أجمعين. ولد بأرض الحبشة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أول من سمي (محمداً) في الإسلام من المهاجرين، قاله محمد بن حبيب في المحبر.
وأما أمه فهي الصحابية الجليلة الوقور سيدتنا أسماء بنت عميس الخثعمية والتي سبق الإفراد عنها في ذكرها ومكانتها عليها رضوان الله في بحث آخر يمكن لمن شاء من العودة له.
وأما جده لأبيه، فهو السيد الجليل المبجل سيد سادات مكة وقريش والعرب، وعلم أعلام الدفاع عن الرسالة الإسلامية المحمدية أبو طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي.
وأما جدته لأبيه فهي السيدة الهاشمية الوقور فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمناف، أول هاشمية تزوجت بهاشمي وأنجبت له ولحقت بكوكبة الإسلام حادية عشرة المسلمين، وكانت بدرية. قال عنها الزبير بن العوام رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو النساء إلى البيعة حين أنزلت هذه الآية: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) وكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلمت وحسن إسلامها ووصت إلى الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقبل وصيتها وصلى عليها ونزل بلحدها وأثنى عليها ثناءً عظيماً ثم قال: (إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها. إني إنما ألبستها قميصي لتكسي من حلل الجنة واضطجعت معها في قبرها ليهون عليها).
وأما جده الأعلى لأبيه فهو أمين الكعبة وصاحب السقاية والرفادة والسيادة، حامي البيت الحرام، عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف، سيد سادات قريش والعرب.
تحدثت عنه أمهات الكتب ومراجع التاريخ وذكرته في زمرة الصحابة الأجلاء، ومنهم ابن حبان والبغوي وابن شاهين والدارقطني وابن مندره وابن عبدالبر والواقدي وغيرهم الكثير. كيف لا وهو وإخوانه قد تولى رعايتهم وولايتهم الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كما سبق بيان ذكره عند الحديث عن استشهاد والده سيدنا جعفر بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه.
ولادته ونشأته عليه رضوان الله وسلامه.
كانت ولادته بأرض الحبشة يوم كان أبواه مهاجرين بها، فخرج إلى الدنيا وهو يرى أصول علم التمثيل الدبلوماسي والنيابة عن العظماء، يوم كان يرى والده هناك، وكيف كانت رعايته لأمة الإسلام بأرض الحبشة، فنشأ على أصول الدين والخلق الرفيع حتى هاجر إلى المدينة المنورة في السنة السابعة للهجرة وهو غض صغير.
لم يبغ من العمر إلا سنوات قليلة معدودة لم تصل للسنوات السبع، إلا ورأى نفسه قد بات يتيم الأب، وقد استشهد أبوه بأرض مؤتة. فانتقلت نشأته وتربيته وتهذيبه إلى أحضان بيت النبوة المحمدي، فتربى في كنف سيد الكائنات وصاحب الخلق العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبه تعلم أصول الدين وقواعد المعاملة وأسس الشجاعة والإخاء في الله، متنقلاً بين بيت النبوة وبيت عمه الأجل وشقيق والده سيدنا علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه، والذي أولاه وأخواته كامل رعايته.
ما لبث الطفل أن رأى نفسه وقد انتقل إلى كنف حبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه ورفيقه، سيدنا أبو بكر الصديق عليه رضوان الله وسلامه، ولكن الإشراف والولاية لم تخرج عنه عليه رضوان الله وسلامه حتى كان أمر الله، بانتقال الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
عاش في كنف خليفة رسول الله رضوان الله عليه، الحاكم للأمة بأسرها، فتعلم أن الحياة إنما هي للآخرة، وأن العيش عيشها، فنشأ وقد ولد له أخاً كان له بعد ذلك شأن في شبابه، هو سيدنا محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليهم، وبذلك كانت تربيته في أربع بيوت عامرة بالدين والأخلاق يعلوها بيت النبوة، وبيت أبيه عليه رضوان الله وسلامه وبيت عمه علي عليه رضوان الله وسلامه وبين خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنه وأرضاه.
فلما كان أمر الله تعالى، ولحق خليفة رسول الله بحبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم، انتقلت حياته ورعايته إلى من آخاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراراً وتكراراً، إلى عمه الهزبر العظيم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه. وبه كانت نشأته وصباه وشبابه، فنشأ معلق القلب بعمه الذي رأى فيه أباه الذي فقده، هذا العم الذي وجد به من الحب لأخيه جعفر وأبنائه ما لا يمكن للسطور أن يصفها، حتى وصلت إلى حدود أن جعل بناته لأبناء أخيه جعفر عليهما رضوان الله وسلامه. ورأى في أبناء عمه، الحسنين العظيمين عليهما رضوان الله وسلامه، الأخوة والسند والأصدقاء الأوفياء، فعاش بينهما وتعلم علومهما وتربى تربيتهما.
ومما يذكره التاريخ عنه وهو في كنف عمه علي عليه رضوان الله وسلامه، أنه تفاخر في حضوره يوماً ابنا السيدة أسماء بنت عميس: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، فقال كل منهما: أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك، فقال علي لأمهم: "اقض بينهما"، قالت: "ما رأيت شاباً من العرب خيراً من جعفر، ولا رأيت كهلاً خيراً من أبي بكر"، فقال علي: "ما تركت لنا شيئاً، ولو قلت غير الذي قلت لمقتك".
إلى جوار عمه الهزبر الأجل علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه.
ولما كانت خلافة أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه، وانتقال دار الخلافة آنذاك من المدينة إلى العراق، انتقل محمد بن جعفر مع بقية أخوانه برفقه عمه إلى العراق، وهناك ثارت الثورات في كل مكان، فكان وبقية أخوانه إلى جوار عمهم في كل وقت ومكان، ومن تلك أن عمه عليه رضوان الله وسلامه كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر: "إني قد اخترتكم على ألأمصار فرغبت إليكم وفرغت لما حدث فكونوا لدين الله أعوانا وأنصاراً وانهضوا إلينا فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا".
حظه في ابنة عمه السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه.
ولقد كان له عليه رضوان الله وسلامه، من الحظ الوافر الكثير، ذاك أنه لما أستشهد سيدنا عمر بن الخطاب، قام سيدنا علي عليهما رضوان الله وسلامه، فدخل على ابنته السيدة أم كلثوم وقد ترملت، فاستشارها بزواجها، فجعلت أمرها بيد أبيها، فأخذ بيد محمد بن جعفر وزوجه إياها على صداق بلغ أربعمائة درهم، فكان حظه منها وافراً عظيماً. كيف لا وهي حفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبضعة الزهراء وشقيقة الحسنين وزينب النرجسة عليهم رضوان الله وسلامه أجمعين.
قال عنه ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/425): (ولد على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أمه أسماء بنت عميس، حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ورؤوس إخوته حين جاء نعي أبيه جعفر سنة ثمان ودعا لهم، وقال: "أنا وليهم في الدنيا والآخرة". وقال: "أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب". ومحمد بن جعفر بن أبي طالب هذا هو الذي تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بعد موت عمر بن الخطاب. قال الواقدي: كان محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن الحنفية ومحمد بن الأشعث ومحمد بن أبي حذيفة كلهم يكنى أبا القاسم واستشهد محمد بن جعفر بتستر) انتهى كلام ابن عبدالبر رحمه الله.
وقال عنه ابن الأثير في "أسد الغابة" (2/481): (محمد بن جعفر بن أبي طالب بن عبدالمطلب، وهو ابن ذي الجناحين، القرشي الهاشمي. وهو ابن أخي علي بن أبي طالب، وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية. ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت ولادته بأرض الحبشة، وقدم إلى المدينة طفلاً ولما جاء نعي جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جاء إلى بيت جعفر وقال: "أخرجوا إلي أولاد أخي". فأخرج إليه عبدالله، ومحمد، وعون، فوضعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فخذه ودعا لهم، وقال: "أنا وليهم في الدنيا والآخرة"، وقال: "أما محمد فيشبه عمنا أبا طالب". وهو الذي تزوج أم كلثوم بنت علي، بعد عمر بن الخطاب. قال الواقدي: كان محمد بن جعفر يكنى أبا القاسم، قيل: إنه استشهد بتستر، قاله أبو عمر) انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله.
وقال البري في "الجوهرة" (1/205): (يكنى أبا القاسم، واستشهد بتستر. وحلق وقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه ورأس أخويه حين جاء نعي أبيهم جعفر سنة ثمان ودعا لهم. وقال: "أنا وليهم في الدنيا والآخرة". وقال: "أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب". وهو الذي تزوج أم كلثوم بنت علي بعد عمر رضي الله عنه. وأما عون بن جعفر: فقتل بتستر أيضا، قال هذا ابن قتيبة) انتهى كلام البري رحمه الله.
وروى أحمد في مسنده برقم (486) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (راح عثمان رضي الله عنه إلى مكة حاجاً ودخلت على محمد بن جعفر بن أبي طالب امرأته فبات معها حتى أصبح ثم غدا عليه ردع الطيب وملحفة معصفرة مفدمة فأدرك الناس بملل قبل أن يروحوا فلما رآه عثمان انتهر وأفف وقال أتلبس المعصفر وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينهه ولا إياك إنما نهاني).
وذكر ابن عبدربه في "العقد الفريد" (1/39) والمرزباني في "معجم الشعر" والقول لابن عبدربه: (قال الشيباني: لما نزل محمد بن أبي بكر مصر وصير إليه معاوية بن حديج الكندي، تفرق عن محمد من كان معه، فتغيب. فدُل عليه، فأخذه وضرب عنقه وبعث برأسه إلى معاوية. وكان أول رأس طيف به في الإسلام. وكان محمد بن جعفر بن أبي طالب معه، فاستجار بأخواله من خثعم فغيبوه. وكان سيد خثعم يومئذ رجلاً في ظهره بزخ من كسر أصابه، فكان إذا مشى ظن الجاهل أنه يتبختر في مشيته، فذكر لمعاوية أنه عنده، فقال له: "أسلم إلينا هذا الرجل" فقال: "ابن اختنا لجأ إلينا لنحقن دمه، عنك يا أمير المؤمنين". قال: "والله لا أدعه حتى تأتيني به". قال: "لا والله لا أتيك به". قال: "كذبت. والله لتأتيني به، إنك ما علمت لأوره". قال: "أجل، إني لأوره حين أقاتلك على ابن عمك لأحقن دمه، وأقدم ابن عمي دونه تسفك دمه". فسكت عنه معاوية وخلى بينه وبينه) انتهى كلام ابن عبدربه رحمه الله.
أعقابه عليه رضوان الله وسلامه.
ولقد ذكرت الكثير من مصادر التاريخ، أنه عليه رضوان الله وسلامه أنجب له بنتاً وكانت تسمى أم عون بنت محمد بن جعفر بن أبى طالب القرشية الهاشمية، ويقال لها: أم جعفر، وهي زوجة محمد (بن الحنفية) بن علي بن أبي طالب، ووالدة ابنه عون بن محمد بن الحنفية. ومن تلك التي ذكرت ذلك، ما روى ابن حجر في "التهذيب" (12/422) برقم (9101) قال: أم عون بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب الهاشمية، ويقال: أم جعفر، زوجة محمد بن الحنفية، وأم ابنه عون. روت عن جدتها أسماء بنت عميس وعنها ابنها عون وأم عيسى الجزار ويقال الخزاعية) انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
كانت أم عون حفيدة جعفر وأسماء عليهما رضوان الله وسلامه ، من عابدات زمانها، الحافظات القانتات، وممن روى الحديث الشريف عن جدتها أسماء وغيرها، وذكرها غير مسند وصحيح في الحديث، وقيل في رواياتها: ثقة.
قلت: ويثبت في ذلك أنه قد كان له زوجة قبل زواجه من السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عليهم رضوان الها وسلامه، وهذا ثابت – وأعني زواجة بالسيدة – وقد تكون (أم عون) هذه ابنتها. فالثابت أنه كان زوجاً للسيدة أم كلثوم، ولو كانت أم عون هذه ابنتها لما جاز لمحمد (ابن الحنفية) بن علي بن أبي طالب عليهم رضوان الهو وسلامه الزواج منها فإنه خالها من جهة أبو السيدة أم كلثوم، فلا يجوز له الزواج بابنة أخته، وهو يؤكد قولنا بأنها كانت من غير السيدة، فالثابت هو زواج سيدنا محمد بن الحنفية من أم عون بنت محمد بن جعفر عليهم رضوان اله وسلامه وإنجابه عوناً منها، ولكني لم أقف على اسم أمها تفصيلاً والله تعالى بذلك أعلم.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "قال الزهري: ولدت جارية لمحمد بن جعفر اسمها بثنة"، وقيل بثينة، ولم نجد ذكراً لها سوى عند الزهري. وهي ما أظنها أم عون.
أما الأبناء، فقد عقب ابناً واحداً أسماه القاسم، وهو القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه، وغالب الظن أنه تربى يتيماً بعد موت أبيه، وهو الذي سبق وأن أوردنا قصة تزويج سيدنا الحسين بن علي عليهم رضوان الله وسلامه له من السيدة أم كلثوم بنت عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأمها السيدة العقيلة زينب بنت علي عليهم رضوان الله وسلامه، عند حديثنا عن سيرة سيدنا عبدالله الجواد بن جعفر عليه رضوان الله وسلامه.
وأما الثابت لدينا، فهو القول بأن (القاسم بن محمد بن جعفر) لم يعقب، وانقطع نسله بخلاف أم عون زوج محمد (ابن الحنفية) بن علي بن أبي طالب عليهم رضوان الهو وسلامه، مما يؤكد انقطاع عقب سيدنا محمد بن جعفر بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه، وهو ما أثبتته جميع المصادر التاريخية التي وقفنا عليها ومن ضمنها ابن فندق البيهقي في لباب الأنساب والألقاب والأعقاب إذ قال عن عقبه (درج) مما يعني انتهاء عقبه وانقضاؤه، ولم أجد ذكراً موثوقاً يتصل به، وينسب إليه بعد ابنه القاسم.
انتقاله عليه رضوان الله وسلامه إلى الرفيق الأعلى.
وأما وفاته عليه رضوان الله وسلامه، فقد وجدنا في الحديث عنه لغط كبير، حيث ذكرت بعض المصادر أنه قتل بصفين واعترك فيها مع عبيدالله بن عمر بن الخطاب عليهم رضوان الهي وسلامه فقتل كل منهما الآخر، قاله الدارقطني في "الاخوة" وأبو الفرج الأصبهاني في "المقاتل" في رواية عن الضحاك بن عثمان، ثم قال الأصبهاني: (هذه رواية الضحاك بن عثمان. وما أعلم أحداً من أهل السيرة ذكر أن محمد بن جعفر قتيل عبيدالله بن عمر. ولا سمعت لمحمد في كتاب أحد منهم ذكر مقتله). ثم ذكر أبو الفرج الأصبهاني في المقاتل، أنه قتل بصفين وهو يحمل راية عمه علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله وسلامه التي تسمى (الجموح)، وأنه لما غلب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه في المعركة وأزال أهل الشام عن صفين، وقف على ابن أخيه محمد بن جعفر بن أبي طالب علي عليه رضوان الله وسلامه على المعركة فأزال أهل الشام عنهما، قال: (اكشفوا هؤلاء القتلى عن ابن أخي) فجعلوا يجرون القتلى عنهما (أي عن محمد بن جعفر بن أبي طالب وعبيد الله بن عمر بن الخطاب عليهم رضوان الهل وسلامه) حتى كشفوهما فإذا هما متعانقان، فقال علي عليه رضوان الله وسلامه: (أما والله لعن غير حب تعانقتما). ذكر ذلك الأصفهاني في مقاتل الطالبيين ممن ذكر.
وذكرت أخرى أنه قتل بتستر، قاله الواقدي وابن عبدالبر وابن حبان وفي أول "الإصابة"، وذكرت ثالثة أنه مات شاباً في أيام أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضوان الله عليه، قاله الحاكم وابن كثير في "البداية والنهاية" في أحداث سنة خمس وثلاثين، ثم قال: (وزعم ابن عبدالبر أنه توفي في تستر فالله أعلم). وذكرت رابعة أنه مات شاباً بعد أن تزوج، قاله السخاوي في "التحفة اللطيفة". وذكرت خامسة أنه قتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين، قاله الواقدي. ولتفنيد كل ذلك ومعرفة حقيقة الأمر والوصول إليها قدر الإمكان نقول:
-
ثبت بكل الأدلة، أن سيدتنا أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما رضوان الله وسلامه، قد تزوجها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ثم خلف عليها سيدنا محمد بن جعفر، ثم سيدنا عون بن جعفر، ثم كانت من بعده لسيدنا عبدالله بن جعفر عليه رضوان الله وسلامه.
-
(القول الأول: استشهاده بموقعة تستر): أثبتت المصادر التاريخية أن تستر قد وقعت في أيام سيدنا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، "وفيها احتشد أهل الأهواز والفرس في جيش كثيف ليواجهوا المسلمين سنة عشرين للهجرة، فكتب الخليفة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، إلى سعد بن أبي وقاص رضوان الله عليه بالكوفة ليرسل إلى الأهواز جيشاً، وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضوان الله عليه بالبصرة ليرسل إلى الأهواز جيشاً، وأبلى القائد العظيم سيدنا أبو موسى الأشعري رضوان الله عليه فيها البلاء الكريم أمام الهرمزان الذي تحصن بجيشه في تستر، إلا أن النصر كان حليف المسلمين وأُسر الهرمزان وأرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ليرى فيه أمره. وفيها كان استشهاد البراء بن مالك أخو أنس بن مالك رضوان الله عليهم أجمعين". فلو كان قد استشهد محمد بن جعفر بها لما كان قد تزوج بالسيدة أم كلثوم عليهما رضوان الله وسلام لأنها قد كانت في حياة سيدنا عمر ولم يفارقها إلى أن استشهد مغدوراً به عليهم رضوان الله وسلامه. وبذلك تسقط فرضية استشهاده بتستر عليه رضوان الله وسلامه وتصبح لا أساس لها من الصحة.
-
(القول الثاني: موته شاباً في خلافة سيدنا عثمان بن عفان): أن القول بموته شاباً في أيام أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضوان الله عليه، وهو قول أبو أحمد الحاكم، ينفي ثبوته وصحته ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية في أحداث (مسير علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلاً من الشام) وذكره أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه، قد أرسله ومحمد بن أبي بكر إلى أهل الكوفة يوم الجمل، وكذلك خروج محمد بن جعفر مع أخيه محمد بن أبي بكر إلى مصر ثم لجوئه إلى أخواله من بني خثعم ودفاعهم عنه أمام معاوية بن أبي سفيان، وكل تلك لم تكن في عهد سيدنا عثمان قط بل كانت بعده. مما ينفي معه القول بموته شاباً في حياة سيدنا عثمان بن عفان رضوان الله عليه. ويسقط معها صحة الفرضية بموته في حياة عثمان شاباً عليهم رضوان الله.
-
(القول الثالث: استشهاده بموقعة الجمل): وتلك فرضية تسقط صحتها بما أوردنا آنفاً من أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه، قد أرسله وأخيه محمد بن أبي بكر عليهم رضوان اله وسلامه إلى أهل الكوفة يوم الجمل، وكذلك خروج محمد بن جعفر مع أخيه محمد بن أبي بكر إلى مصر ثم لجوئه إلى أخواله من بني خثعم ودفاعهم عنه أمام معاوية بن أبي سفيان. إضافة إلى ذلك، فإن وقعة الجمل كانت على أصدق الروايات يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين للهجرة، وهذا قول ابن عبدالبر في "الإستيعاب" وكذا قاله الذهبي في "العبر" في أحداث سنة ست وثلاثين، وكذا قاله العاصمي في "سمط النجوم" ثم قال: (قال المسعودي: وكانت وقعة الجمل يوماً واحداً). وقال المحب الطبري في "الرياض النضرة" في حديثه عن استشهاد الزبير بن العوام عليه رضوان الله: (قيل: كان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستة وثلاثين، وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل، وسنه يومئذ سبع وستون سنة، وقيل ست وستون). ويستخلص من ذلك ثبوت وقوعها سنة ست وثلاثين، أي وقوعها قبل صفين، وقد كان محمد بن جعفر حياً يوم صفين كما سيلي ذكره، ويسقط معه صحة فرضية استشهادة في موقعة الجمل.
-
(القول الرابع: استشهاده بموقعة الحرة): أجمع الثقات من المؤرخين أن وقعة الحرة كانت سنة ثلاث وستين للهجرة، وما يؤكد ذلك أن موت يزيد بن معاوية قد كان في ربيع الأول سنة أربع وستين، ووقعة الحرة كانت في عصره وبأمره، بل ووقعة مكة المكرمة ورجم الكعبة المشرفة بالمنجنيق كانت كذلك. فقال الذهبي في "العبر" والعسقلاني في "الإصابة" وابن حبان في "الثقات" والزركلي في "الأعلام" والذهبي في "السير" والواقدي في "الطبقات" والقول للذهبي في حديثه عن أحداث سنة ثلاث ةستين للهجرة: (فيها كانت وقعة الحرة، وذلك أن أهل المدينة خرجوا على يزيد لقلة دينه. فجهز لحربهم جيشاً عليهم مسلم بن عقبة. فالتقوا بظاهر المدينة لثلاث بقين من ذي الحجة. فقتل من أولاد المهاجرين والأنصار ثلاث مئة وست أنفس. وقتل من الصحابة: معقل بن سنان الأشجعي، وعبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني الذي حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم) انتهى كلام الذهبي رحمه الله. وقال ابن حبان في الثقات: (وقد بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزني إلى المدينة لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، فقتل مسلم بن عقبة بالمدينة خلقاً من أولاد المهاجرين والانصار واستباح المدينة ثلاثة أيام نهباً وقتلاً فسميت هذه الوقعة وقعة الحرة وتوفى يزيد بن معاوية بحوارين قرية من قرى دمشق لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول سنة أربع وستين وهو يومئذ بن ثمان وثلاثين وقد قيل إن يزيد بن معاوية سكر ليلة وقام يرقص فسقط على رأسه وتناثر دماغه فمات وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد) انتهى كلام ابن حبان. مما يثبت معه أن وقوع موقعة الحرة كان في نهاية سنة ثلاث وستين، مطلع سنة أربع وستين للهجرة. ويسقط بذلك صحة هذه الفرضية لأسباب عدة، ومنها:
• أن القول باستشهاده يوم الحرة سنة ثلاث وستين، ينفيه زواج أخيه عوناً من السيدة أم كلثوم بنت علي عليهما رضوان الله وسلامه من بعده. فالثابت أن زواج السيدة أم كلثوم كان من سيدنا عمر بن الخطاب ثم من سيدنا محمد بن جعفر ثم من سيدنا عون بن جعفر عليهم رضوان الله وسلامه. وكان كل ذلك في حياة أبيها سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه، وهو الذي زوج ابنته إلى للثلاث. وكانت واقعة الحرة بعد استشهده عليه رضوان الله وسلامه بثلاث سنين.
• أن زواج سيدنا عبدالله بن جعفر من السيدة أم كلثوم بنت علي عليهم رضوان الله وسلامه، كانت بوصية من زوجته السيدة العقيلة زينب بنت علي عليهما رضوان الله وسلامه، وواقعة الحرة كانت بعد إنتقال العقيلة بعام ونصف تقريباً، فلو كان استشهاد محمد بن جعفر بموقعة الحرة لما كانت قد أوصت العقيلة زوجها بالزواج منها وهي على عصمة أخيه محمد.
-
(القول الخامس: استشهاده بموقعة صفين): كانت موقعة صفين في سنة سبع وثلاثين للهجرة، وهو ما قاله ابن العديم في "زبدة الحلب" وغيره من ثقات أهل التاريخ: قال ابن العديم: (موقعة صفين. جرى بين علي عليه السلام وبين معاوية اختلاف إلى أن سار كل منهما إلى صاحبه، والتقيا بصفين، وذلك بعد سنة وشهر من خلافة علي، في سنة سبع وثلاثين. وكان علي في تسعين ألفاً ومعاوية في مائة ألف وعشرين ألفاً، وقتل بها من أصحاب علي خمسة وعشرون ألفاً، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً. وكان مقامهما بصفين مائة يوم وعشرة أيام. وكانت الوقائع تسعين وقعة، ثم اتفقا على التحكيم، والتقى الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص بأذرح (دومة الجندل) في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين) انتهى كلام ابن العديم. وقد ذكر مقتله عليه رضوان الله وسلامه، في صفين على يد ابن الفاروق رضوان الله عليه. وقال العسقلاني في "الإصابة" (3/58): (قال الدارقطني في كتاب الإخوة: يقال: إنه قتل بصفين اعترك هو وعبيدالله بن عمر بن الخطاب فقتل كل منهما الآخر) انتهى كلام العسقلاني رحمه الله. ولم أرى بذلك صواباً كون ما قاله الدارقطني، وبينه أبو الفرج في رواية عن الضحاك لم يذكرها غيره، ولم يثبت قط صحتها. وقد وقفت على عشرات المراجع الثابتة ولم أجد ذكراً لمقتل محمد بن جعفر في صفين.
يستخلص من هذا العرض أنه عليه رضوان الله وسلامه، لم يقتل بتستر ولا بموقعة الجمل، ولا في أيام سيدنا عثمان بن عفان شاباً، ولا في موقعة الحرة، ولكن الغالب والأصح، أن وفاته عليه رضوان الله وسلامه، كانت بعد موقعة صفين وخلال الفترة بين موقعة النهروان التي خاضها سيدنا علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه على الخوارج وقبل استشهاده، وهي الموقعة التي أثبتها الثقات من أهل التاريخ بأنها وقعت في سنة ثمان وثلاثين للهجرة، قاله ابن عبدالبر في "الاستيعاب" وقال الذهبي في "العبر": (سنة ثمان وثلاثين. في شعبان قتلت الخوارج عبدالله بن خباب وعليهم مسعر بن فدكي وشبث بن ربعي. وفيها كانت وقعة النهروان بين علي والخوارج. فقتل رأس الخوارج عبدالله بن وهب السبائي. وقتل أكثر صحابه. وقتل من جند علي اثنا عشر رجلاً. ويقال كانت هذه الوقعة في سنة تسع. وفيها توفي صهيب بن سنان المعروف بالرومي توفي في شوال بالمدينة. وكان من السابقين الأولين) انتهى كلام الذهبي رحمه الله. مما يعني أن استشهاد سيدنا محمد بن جعفر قد كان في تلك الموقعة (ولم يثبت ذلك عندنا بالأدلة)، أو كان إنتقاله وفاة طبيعية، ولكن كان كل ذلك خلال حياة سيدنا علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وسلامه. وهو الثابت لدينا والصحيح.
فسلام عليه يوم ولادته ويوم انتقاله ويوم يبعث بين يدي الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين.